|
علبة
الأسرار
حياة
أبو فاضل
ندهتني
دمشق! – وآخر زياراتي لها مرَّ عليها زمنٌ
يذكرُه بردى يوم كانت شرايينُه تدفق ماء.
فاجأني صغيرةً لا تعرف كيف يتكلَّم النهر ولا
ماذا يقول. وحين حملتْني على كفِّها اليوم
فتحتْ علبة أسرارها، وفاض عليَّ سحرُ هوائها
الناشف مخترقاً الحواجز – إلا بردى الذي
صدمني بصمته! فشرايينه الهادرة جفَّت، وذهب
في سبات طويل. وبين
الضوء والظلام، وبعدما أعلنتْ سنونواتُ
سمائها بدء لعبة السحر، سحبتْني أزقَّتُها
القديمة وكأنني مشيتها مئات المرات من قبل.
ضجَّت الطرقاتُ الضيقة بالحوانيت المتتالية،
المضاءة بالألوان، وبرائحة زمن بلا بداية ولا
نهاية... إلى أن استقررت على حافة بركة مستديرة
أمام الجامع الأموي. جلست لأستريح بين أميمة
وديمتري. وكان هدوء يفرضه المكان، والناس إنْ
تكلِّموا فهمساً، تاركين سردَ الأسرار لدمشق. وارتويت
شاياً في مقهى "النوفرة" الطريف الذي
يجمع النساء والرجال حول "أركيلات"
كثيرة وأقداح شاي تصدح بالأنس الساهر في
بساطة. ويعلو صوت الأذان من الجامع الأموي.
جوقة من المؤذِّنين تفتح الدرب بين الأرض
والسماء، بين العقل والقلب. ذكَّرني بالطقس
البيزنطي وبترانيم من الفيدا، تردِّد
ذبذباتُها صدى وحدةٍ تجمع، ويُدركها من
تفتَّح قلبُه على الجمال الواحد. حديقة
بيت جبري مزدحمة ولا مكان لنا! تذكَّرتُ
السوري فاروق جبري في صفي في مدرسة برمانا
العالية. صغاراً كنَّا، وفي دهشة مستمرة، لأن
لفاروق عيناً زرقاء وعيناً عسلية! "نيَّاله!"
["هنيئاً له"]، كنَّا نقول. لا
مكان لنا في الحديقة حول البركة! أنا من لبنان، وأريد أن أتمتع بهمس مياه حديقة بيت
جبري! وفوراً تُحشَر طاولة صغيرة للـ"ضيوف"،
ونأكل الخبز المرقوق المحمَّص باللبنة
والجبنة والزعتر. وسهرة
في حديقة قصر العظم، حديقة "الحرملك" من
زمان. قصر رائع بكل ما فيه، بجدرانه المزركشة
وحديقته، والياسمين الأخضر يتهيأ لبثِّ
أزهاره، ربما بعد شهر؛ إنما حديد نوافذه،
الواقف ضد الحرية بلونه الأسود، كأنه لسجن،
يقفل نوافذ القلب. كيف تنشَّقت النساء هواءً
داخل القصر في ذاك المكان؟! وفوق
خشبة مسرحٍ توسَّطَ الحديقةَ شاهدنا "ثلاث
قصائد غير منشورة" تقرأها أجسامٌ راقصات
لفنانين خمسة – ثلاثة شبان وصبيتان، فرنسيون
ويابانيون. رقصوا بلا تواصل في البدء، ثم
التقوا مكتشفين ذواتهم من خلال الآخر.
والتصميم والكوريغرافيا لميشيل كليمينيس. أما
نهار دمشق فلا يحمل سحر ليلها الفاتن. أحياناً
كثيرة كأنها بيروت، لكن بلا رطوبة المتوسط...
وأحياناً كأنك في أحد مطاعم أوروبا. ومرة، بعد
الظهر، في "كافيه برازيل" فندق الشام
التقيت من أهل الشعر والنثر جبران، وعمار
وزوجته، ومعن، وأكرم، وصديقي ديمتري المؤمن
وأكرم وعمار ومعن بمقاومة سلمية "غاندية"
للإرهاب الصهيوني المتواصل. ينشرون أفكارهم
من خلال موقع معابر على الإنترنت،
مقتنعين بأن المقاومة السلمية وحدها تحقق
الانتصار على إسرائيل! يتكلَّمون وكأن العدو
الصهيوني يملك قلب إنسان، كأن تاريخه المعتم
يحمل ولو ومضة نور شاحب، كأن من سمَّاهم
المسيح "أبناء الأفاعي"، الذين "جعلوا
بيت أبيه مغارة لصوص"، سيتفهمون المقاومة
السلمية من باب إنسانية الإنسان! إلا
أن الحوار من خلال معابر مهم وضروري
ومرحَّب به في زمن تشق فيه ديموقراطية الفكر
العربي خطواتها الواثقة الأولى. ندهتني
دمشق، وأخبرتني عن بُعد آخر لإيقاع الحياة،
بُعدٍ تحفظه ذاكرة مدينة في أرشيفها لتهبك
جرعات منه تحملها في حقيبة أحلامك متى أنت
جاهز ومستحق. ***
*** ***
|
|
|