|
الجزء
الثالث من
الكتاب:
أمس المكان الآن
زواج
الشعر والفلك والتاريخ والمسرح
شوقي
بزيع
بصدور
الجزء الثالث من الكتاب: أمس المكان الآن (دار
الساقي، بيروت ولندن، 2002) يفرغ أدونيس من
كتابة أحد أكثر أعماله الشعرية فرادة ومغايرة
وإثارة للَّبس والجدل – إن لم يكن أكثرها على
الإطلاق. فهذا السِّفر الضخم الذي يربو عددُ
صفحات أجزائه الثلاثة على الألف وأربعمائة
صفحة لا يمكن النظر إليه بوصفه مجرد عمل شعري
جديد يُضاف إلى الأعمال الشعرية السابقة، بل
بوصفه مشروعًا فكريًّا ومعرفيًّا وإبداعيًّا
مركَّب الهوية، يختلط فيه الشعر بالنثر،
والفلسفة بالتاريخ، والذاتي بالجماعي، أراد
أدونيس من خلاله أن يتوِّج مسيرة شعرية
وفكرية تناهز الخمسة عقود. إن ما فعله أدونيس في الكتاب
يتقاطع، من وجوه عدة، مع ما فعله دانتي في الكوميديا
الإلهية وغوته في فاوست ونيتشه في هكذا
تكلم زرادشت وجبران في النبي. فلقد
اختار كلٌّ من هؤلاء القناعَ الذي يناسبه
ليقول الكلمة التي تختلج في أعماقه، وليطرح
أسئلته المقلقة على الوجود والعالم، وعلى
نفسه قبل كل شيء.
لا يمكن النظر إلى "كتاب"
أدونيس بهذا المعنى من زاوية انتقائية
ومجتزأة. فكل نظرة مماثلة لا بد أن تبعث على
الارتياب والتشكيك وسوء الفهم. لقد هال الذين
حاكموا الكتاب بميزان الشعر وحده أن يروا
في هوامشه هذا الكم الكبير من النظم العادي
والشروح النثرية وسرد الوقائع والأحداث؛
والذين حاكموا العمل بميزان التاريخ رأوا فيه
تغليبًا للذاتي على الموضوعي، وللمزاج
الشخصي على الحقيقة المجردة؛ والذين حاكموه
بميزان الفكر كانوا ينطلقون من مفاهيم موروثة
ومسبقة، قائمة على الفصل الكامل بين "الغناء"
والمعرفة وبين القلب والعقل. والحقيقة أن
جميع هؤلاء في وادٍ وأدونيس، كما أرى على
الأقل، في وادٍ آخر. ذلك أن صاحب أغاني مهيار
الدمشقي وكتاب التحولات... لم يكن يرى
إلى الشعر باعتباره غناءً وإنشادًا خالصين،
بل باعتباره طاقة معرفية تحويلية ورؤية شاملة
للوجود وتقويضًا، باللغة والموقف، للأعراف
والقيم السائدة. وهو ما يتطلَّب من الشاعر لا
أن يكون ناظمًا للمشاعر أو للمعاني فحسب، بل
أن يكون حادِسًا وصاحب مشروع ومستكشفًا
للمجاهيل. إذا كان المكتوب يُقرأ من عنوانه
فإن تسمية الكتاب نفسها تؤشر، من حيث
دلالاتُها الإيحائية المضمرة، إلى مناطق
الاشتباك التي يقيمها أدونيس بين الشاعر
والنبي. ليس ذلك بالمعنى الديني والإيماني
الصرف، بل بالمعنى الذي يجعل من الشعر فعل
استباقٍ وملعب حدوس، ومن الشاعر نفسه كائنًا
منوطًا بتأويل العالم وإعادة صياغته. أما
العنوان الرديف "أمس المكان الآن" فهو
يؤكد على العلاقة العضوية الراسخة بين المكان
والزمان، من جهة، وعلى كون الماضي هو الذخيرة
التي يتزوَّد بها الحاضر في طريقه إلى
المستقبل، من جهة أخرى. إن الكتابة، بمفهومها
العميق، هي، وفق أدونيس، تجذُّر في الزمن
وتحلُّل منه في آن؛ أو هي الجذور التي، حين
يُضجِرُها التراب، تحمله معها وترحل في
مغامرة مجهولة العواقب! لم يكن من قبيل المصادفة،
إذن، أن
يتخذ أدونيس من المتنبي قناعه وظهيره وحجَّته
على الزمن، وأن يستهلَّ ثلاثيَّته الشعرية
الضخمة بالعبارة التالية: "مخطوطة تُنسَب
إلى المتنبي يحققها وينشرها أدونيس"! إن
التحقيق الذي يشير إليه أدونيس هنا لا يحمل،
كما في تحقيق المصادر والأمَّهات، معنى الشرح
والتعليق والتفسير، بل معنى العلامة أو
البرهان اللذين يعكسان التناظر والتصادي بين
نهاية الألفية الأولى ونهاية الألفية
الثانية. فكأن كلاً من الشاعرين يتشاطران
العبءَ نفسه ويحملان على كاهليهما جثة
النهايات والمصائر وثقل الوعود والأحلام. كلٌّ منهما عاش زمن التفسخ والانحلال وتذرُّر
الدويلات وانهيار القيم وفساد الشعر؛ وكلٌّ
منهما منوط بإطلاق الصرخة إلى نهاياتها، ودفع
الكارثة قليلاً إلى الوراء، وإعادة المصالحة
بين الشعر والنبوة. على أن اختيار أدونيس للمتنبي
ليكون قناعًا له لا يعني التماهي أو التطابق
بين الشاعرين بقدر ما يحمل معنى الحوار
والمساءلة وتشابه الظروف المحيطة بالشاعرين.
إن علاقة الحفيد بالجد هنا ليست علاقة تشبُّه
أو التحاق أو محاكاة، بل هي علاقة جدل ومغايرة
وتبايُن في اللغة والعبارة والأسلوب. ومع ذلك
فهما يلتقيان في متَّحَدٍ مفهومي قوامُه
الهضم والتجاوز أو الهدم والتأسيس. وهما
يلتقيان في إخراج الشعر من رخاوته الإنشائية
الغنائية وتحويله إلى موقف شمولي من الحياة
واللغة والأشياء وإلى انقلاب مستمر على الذات
والعالم. الجزء الثالث من الكتاب
هو، من
حيث البنية والشكل، امتداد للجزأين السابقين، مع بعض التعديلات الطفيفة في
التبويب والتفريع. فالكتاب يتألف من سبعة
فصول، يضم كلٌّ منها "فاصلة استباق"
وعددًا من المقاطع الشعرية مساويًا لحروف
الهجاء، إضافة إلى هوامش سبعة تحمل عناوين:
"معراج" و"ديجور" و"رصد" و"فلك"
و"غيوم" و"غَوْر" و"غيب". كما
يتألف كلُّ هامش من الهوامش من عشرة مقاطع
شعرية. ولا تُخفى في هذا السياق الدلالة التي
يحملها الرقم "7"، سواء في الفكر
اليوناني الفيثاغوري أم في الفكر الديني
المتصل بتفسير الكون وعدد السماوات والأرضين
ونظرية الخلق. أما صفحات الكتاب نفسها فتنقسم
إلى متن متعلق بالشعر وهامش متعلق بالتاريخ.
يتخذ المتن في وسط الصفحات شكل مستطيل،
وينقسم إلى شطرين: أعلاهما منسوب إلى المتنبي، وأسفلهما شبيه بالتذييل الذي
يعلِّق بواسطته أدونيس على ما ينسبه أدونيس
إلى المتنبي. الهامش، بدوره، يتوزع بين يمين
الصفحة الذي يؤرخ للأحداث والوقائع تحت باب
"الذاكرة" وبين يسارها الذي يعلِّق على
الأحداث والأسماء بالشرح والتفسير. وإذا كان جزءا الكتاب الأولان قد
تناولا أبرز محطات التاريخ العربي منذ
الجاهلية وحتى العقد الثامن من القرن الثالث
الهجري فإن الجزء الثالث والأخير يتابع ما
تبقى من الأحداث وصولاً إلى منتصف القرن
الرابع الهجري، أي إلى اللحظة نفسها التي
شهدت نهاية المتنبي وأفوله الجسدي. وهي أحداث
تشير بالسنوات وبالقرائن إلى صعود دولة
القرامطة وانحلالها، كما إلى انحلال الخلافة
العباسية وقيام الدويلات ومصارع الخلفاء
وتحولهم إلى ألعوبة في أيدي القادة والغلمان
والجواري، وإلى النهايات المأساوية لعلي بن
محمد والحلاج وغيرهما من "المارقين" في
السياسة والأدب والفكر.
الكتاب
بهذا المعنى هو المعادل الشعري البالغ
الدلالة لما أسَّس له أدونيس فكريًّا في
كتابه الآخر الثابت والمتحوِّل وضمَّنه
رؤيته الخاصة إلى التراث العربي والإسلامي،
الموزع بين الرفض والامتثال وبين النار
والرماد. وكل رؤية للعمل خارج هذا المفهوم
الجدلي الخلاق هي رؤية ناقصة وأحادية لا تريد
أن ترى من الكأس سوى نصفها الفارغ ولا تقبل
إلا أن تُسقِط عليه نظرتها المسبقة
والمتحاملة. وإذا كان هامش الكتاب مريرًا إلى
هذا الحد ومضرَّجًا بالمذابح والمجازر
المتواصلة فلأن أحداث التاريخ تؤكد ذلك، ولأن
بارانويا السلطة لا تستسقي سوى المزيد من
الدم المسفوك، ولأن "المُلك عقيم"، كما
يقول هارون الرشيد لولده الأمين، الذي قضى
بعد ذلك بسيف أخيه. غير أن الذين يأخذون على
أدونيس أنه رأى في الذبح والقتل والاغتيال
الصورة الوحيدة للتاريخ العربي ينسون – أو
يتناسون – الصورة الزاهية الأخرى التي
قدَّمها الشاعر لهذا التاريخ والتي تمثلت في
جزأي الكتاب السابقين بعشرات الأسماء من
الشعراء والكتاب والمفكرين. كما أن صاحب الكتاب
لم يجعل من التعطش للدم خاصية عربية أو
احتكارًا عربيًّا سلطويًّا لحاسة القتل
وشهوة الانتقام، بل هو خاصية السلطة حيثما
وجدت، سواء في طبائع الاستبداد الشرقي أو في
الماكيافيلِّية الغربية التي أماطت اللثام
عن وجه أوروبا الشنيع. ليست ثلاثية أدونيس الشعرية بهذا
المعنى سوى إعادة تظهير لدور المثقف المبدع
في نقد السلطة الحاكمة، لا بما هي سلطة سياسية
أو عسكرية فحسب، بل بما هي تأييد للأعراف
والقيم السائدة ولثقافة التكرار والاستنقاع
والرضوخ. فالمثقف الحقيقي، وفق أدونيس، هو
الضمير والبوصلة والدليل، وهو من يعاند
ويخلخل ويدقُّ ناقوس الخطر. لكن ذلك الدور
المنوط به لا يمكن أن يُنجَز بالوسائل
القديمة والمستنفَدة، أو بلغة المديح والفخر
والهجاء، بل بتثوير المفاهيم وتغيير الأدوات
ونقد الرائج والمتداول. وإذا كان أدونيس
يلتقي، في بعض توجُّهاته، مع أطروحة "المثقف
الملتزم" التي أخذ بها جان بول سارتر
ومعتنقو الواقعية الاشتراكية، إلا أنه يفترق
عن هذه الأطروحة في جعله الوسيلة جزءًا من
الغاية والطريق عين الهدف. إذ لا يمكن تحقيق
التقدم بوسائل رجعية ونشدان الثورة بلغة
الهتاف الأجوف. وإذا كانت صفحات الكتاب
تسير على خطين اثنين: خط التاريخ وخط الإبداع،
فلأن كاتبها يؤمن أشد الإيمان بالتوأمة
العميقة بين الواقع والإبداع، وبين تغيير
اللغة وتغيير العالم. ولعل هذه التوأمة
بالذات هي التي أعطت لشعر أدونيس وفكره
جاذبيتهما الفريدة وجعلت من تجربته محطَّ
أنظار الأجيال الجديدة وقوى الاعتراض الفتية، وهي التي حوَّلت كتبه
وأشعاره،
وبخاصة في دول القمع والاستبداد، إلى مواد
ممنوعة يتم تهريبها بشكل سري من يد إلى يد ومن
قارئ إلى قارئ. ما يلفت في الجزء الثالث من الكتاب،
أكثر من سواه، هو ارتفاع منسوب الشعرية نفسها
على حساب النثر والهوامش التاريخية. كأن نزوح
المتنبي عن حلب ورحيله المأساوي إلى مصر
يتركان الشعر عاريًا في المواجهة وبعيدًا عن
نبرة الانتصار الواثقة التي لازمتْه في بلاط
سيف الدولة. لقد فقد الشاعر هنا قلعته وصهوته
وظهيره الصلب، وبات على الشعرية نفسها أن
تملأ المكان الشاغر وترتق فسوخ الروح
وتصدعاتها. لا يملك أدونيس في هذه الحالة سوى
أن يهتف بلسان المتنبي (ص 12): ما
لِحُزْني يطاردُ أسرارَهُ ما لَهُ ساهِرٌ يتقلَّبُ في
دائهِ؟ أعْطِه أيُّها
الجمرُ مفتاحَهُ وأعِدْهُ
لبيدائهِ. أصحيحٌ أنني لستُ إلا
الطريقَ الذي سِرْتُهُ؟ وفي هذا الهتاف الوجودي ما يتصادى
مع نظرة الشاعر اليوناني كافافي إلى إيثاكا
التي تتكشف، عند الوصول إليها، كومةً من
الخرائب، فيما يتألق الطريق إليها كأجمل ما
يكون التألق. على أن طريق أدونيس–المتنبي
تمتاز عن طريق كافافي في انقلابها على نفسها
وفي التباسها بسواها (ص 152): لا
طريقٌ إذا لم يكن
نفيُها طريقًا إلى
غَيْرِها. إن ما يجمع المتنبي بأدونيس
وبكلِّ شاعر حقيقي هو القلق والتوجُّس وفقدان
اليقين. ليس قلق الإقامة فحسب بل قلق الرحيل
أيضًا (ص 53): كرِّرِ الآنَ
قوليَ يا أيُّها الجوادُ، وكرِّرْهُ
يا أيُّها الحُسامْ: آهِ ما أقْتلَ
الرَّحيلَ، وأقْتلُ مِنه
المُقَامْ. كلاهما – الإقامة والسفر –
مفتاحان خاطئان لباب الحياة العطوب؛ الحياة
التي تلمع في مكان آخر، بحسب كونديرا، والتي
لا سبيل إلى تجنُّب الخوف منها سوى باقتحامها
والوقوع فيها وقوع الذكر في الأنثى – ولو بلا
أمل في الوصول. يعيد أدونيس قراءة المتنبي كما
يليق بالشاعر أن يقرأ نفسه ويقرأ الآخر،
مفجِّرًا في سِفره الضخم الإشكالية تلو
الإشكالية والسؤال تلو السؤال: إشكالية
العلاقة بين الشاعر والسلطة، وبين الشاعر
واللغة، وبين الشاعر والحب، وبين الشاعر
والموت. هكذا تتحوَّل الكتابة إلى متواليات
متواصلة من الأفخاح والهواجس والشكوك. وفي ردٍّ واضح المعالم والرؤى على تشكيك بعضهم
بأنفة المتنبي وكبريائه، وعلى اتهامهم له
بالسعي إلى سلطة زمنية عابرة يفرِّط في
سبيلها بكرامة الشعر، يقول أدونيس–المتنبي (ص
159): لِمَ لَمْ
يفهموني؟ لا
أطالبُ بالمُلكِ. مُلْكي أن
أردَّ إلى الأرضِ فِطْرَةَ إبداعِها – الأرضُ بيتٌ ليس فيه عبيدٌ
ولا سَادَةٌ، ومُلْكي أنْ أسائلَ نفسي: مَنْ أنا؟
ولماذا؟ سُمِّيَ المتنبي
شَبَحٌ فيَّ؟ شَمْسٌ لا تُصدِّق حتى
قناديلَها. لِمَ لَمْ
يَفْهموني؟ الشعر هنا لا يسير بمحاذاة
التاريخ، بل يعمل على تصويبه وإعادة صياغته،
بما يجعل الشاعر خالقًا للتاريخ ومخلِّصًا
إياه من عهدة مؤرخي السلطة وكتبة البلاطات.
والشاعر منوط، بالتالي، بإعادة الاعتبار إلى
أولئك الذين تتعرض حيواتهم للتزوير ودعواتهم
للاغتصاب والتحريف. على أن أدونيس، في عمله
الأخير، لا يكتفي بتصحيح التاريخ من الجهة
المتعلقة بالمتنبي فحسب، بل هو لا يجد حرجًا
من تصحيح الصورة التي جعلت من كافور مجرد حاكم
جاهل تتحكم فيه عقدة العبودية واللون، ليجعل
منه حاكمًا عميق السريرة وشغوفًا بالحرية
والإبداع. فأدونيس الذي يرفض النظر إلى
التاريخ باعتباره معطى نهائيًا وناجزًا
يتولَّى قراءة كافور من خارج الرؤية الثنائية
التبسيطية التي تجعله ممثلاً للشر المطلق
مقابل الخير المطلق. لذلك فهو في "كتاب
السواد"، الذي يشكل مع "رماد المتنبي"
خاتمة الثلاثية، يتحدث بلسان كافور عن طفولة
هذا الأخير البائسة وعن صعوده إلى الملك
وصولاً إلى اللبس الذي أحاط بموقفه من أبي
الطيب (ص 339): لا أريدُ امتداحَ
السَّوادِ، ولكن ربَّما أخطأ
المتنبِّي في قراءةِ لَوْني
وقراءةِ ما بيننا. لم أشَأْ أنْ
ألبِّيَ ما شاءَ. لم أعطِه الولايةَ كي لا يكونَ سجينًا
لَها. شئتُ أن يَستمرَّ
وَفيًّا لمراراتِهِ. أن يُطِلَّ على
الأرضِ من شُرْفة الأنبياءْ كوكبًا مُلْكهُ
الفَضاءْ. لا بدَّ أخيرًا من الإشارة إلى
العَصَب الذكوري الذي تمتاز فيه شاعرية
أدونيس، في الكتاب كما في سائر أعماله.
فذلك العصب ليس ناجمًا، كما رأى بعضهم، عن
فحولة استقوائية قوامها السيطرة والاستحواذ،
بقدر ما هو مساحة للتوتر وقلق في اللغة وطريقة
في تزويج المفردات. إنها ليست الذكورة التي
تقابل الأنوثة وتعمل على قهرها وتغييبها، بل
التي تقابل الميوعة والرخاوة والإنشاء. ولعل
هذه الميزة بالذات هي ما جعل أدونيس يرى في
المتنبي نظيره في اللغة والحياة والموقف.
فالشعر عند كل منهما نظير الكثافة والامتلاء
الذي يتميز بهما الجسد الذكوري. إنه دفع
باللغة إلى نهاياتها، وجذب لخيط البلاغة إلى
أقصاه، ووقوف على التخوم الملغزة التي تُلمَح
على شفا الموت. وليس غريبًا، في حالة كهذه، أن
يعلن أدونيس بلسان المتنبي مرة أخرى (ص 235): هل
أحَدٌ يعرف أنَّي أعشقُ
موتي، لا شغفًا
بالموتِ، ولكن كي أبقى سِرًّا؟ *** *** *** عن
السفير، 24/1/2003
|
|
|