|
عودة
إلى
ذكرى
العاقل وتنبيه الغافل
للأمير
عبد القادر الجزائري
أحمد
برقاوي
1.
المقدمة: غلبتْ
الصفةُ السياسية على الأمير عبد القادر
الجزائري. فلا نكاد نجد في الكتب التي تؤرِّخ
للنهضة العربية ذكراً لهذا الأمير إلا وهو
مرتبط بثورته ضد فرنسا، أو بوقوفه ضد الحرب
الطائفية عام 1860، أو بتبيان علاقته بالدولة
الفرنسية، أو زياراته المتعددة إلى الأستانة
ومصر وباريس، وحصوله على الأوسمة والمنح. والحق
أن عبد القادر الجزائري – إلى جانب هذا كلِّه
– رجل فكر متبحِّر في علوم الدنيا والدين. وقد
كانت له آراء خاصة في قضايا العقل والأخلاق
واللغة والتصوف، مما يجعله قميناً بأن يُدرَج
في عداد رجالات النهضة المبكرين، على تمايزه
عن جلِّهم بأنه رجل سياسة وفكر في آن. أما
حياته السياسية فقد تعرَّضت لأكثر من تقويم –
سلباً وإيجاباً. وليس في ذلك ما يدعو إلى
الغرابة: فهو الأمير الذي حارب فرنسا لأكثر من
خمسة عشر عاماً؛ وهو، في نفس الوقت، الذي أقام
علاقة حميمة مع نابليون الثالث الذي رصد له
ميزانية سنوية تُصرَف له ولأتباعه؛ إنه صاحب
الحظوة عند الباب العالي؛ وهو – إلى جانب ذلك
– الطَّموح لأن يغدو أميراً على بلاد الشام
عبر مباحثات مع الغرب. وقد
ظل طوال حياته يعامَل كرجل دولة. فقد كُلِّف
بحماية المسيحيين في أثناء الفتنة الطائفية
في سوريا العام 1860. وبشهادة ميخائيل مشاقة فإن
عبد القادر الجزائري أنقذ ستة عشر ألف نسمة من
المسيحيين.[1]
كان واحداً من المدعوين لحضور حفل افتتاح
قناة السويس، وقد تردد اسمه في تقارير
القناصل الأجانب بصفته صديقاً لفرنسا وشخصية
عربية–إسلامية مرموقة.[2]
ولا شك أن حياته السياسية الغنية، وتجواله في
أصقاع أوروبا والتعرف على مظاهر حضارتها،
سيكون لها أثر في تكوين معتقداته التي خضعت هي
الأخرى لإرثه الإسلامي، وخاصة التصوف. وليس
أدل على أثر الغرب في فكر الجزائري من انتسابه
إلى الحركة الماسونية. والحق أن المحافل
الماسونية التي تأسَّست في نهاية القرن
التاسع عشر إنما كانت تعبيراً عن نزوع تحرري
تنويري لدى النخبة العربية في مصر وبلاد
الشام. ولهذا ليس غريباً أن تجد أن جلَّ رواد
النهضة، من مسلمين ومسيحيين، كانوا أعضاء في
هذه المحافل أو من مؤسِّسيها، كالأفغاني
والكواكبي وجرجي زيدان وأديب اسحق ويعقوب
صروف إلخ. وقد
أشار كراتشكوفسكي إلى أنه كان لبطاقة "ماسوني"
في المشرق العربي في منتصف القرن التاسع عشر
نفس الأهمية التي كانت لكلمة "فولتيري"
في روسيا في بداية القرن التاسع عشر.[3]
أي أن قوى المعارضة من النخب المثقفة للنظام
التقليدي قد تحلَّقت حول الماسونية، بما
طرحته آنذاك من أفكار حول التسامح الديني
والحرية والمساواة والإخاء. بمعنى آخر، وجد
المثقفون العرب في القرن التاسع عشر في
ليبرالية الماسونية سنداً إيديولوجياً
لمواجهة المجتمع التقليدي والتحرر منه. يورد
الباحث حسين عمر حمادة قصة انتساب عبد القادر
الجزائري إلى الماسونية، مستنداً إلى أكثر من
مصدر. من ذلك قول جرجي زيدان إن "الماسونية
دخلت دمشق بمساعي الأمير عبد القادر الجزائري.
وأن أول محفل تأسَّس فيها هو محفل سوريا بشرق
دمشق"[4]،
وقول شاهين مكاريوس أن عبد القادر الجزائري
اغتنم فرصة مروره بالإسكندرية في أثناء عودته
من الحجاز سنة 1864، فانتظم في سلكها في 18
حزيران بمحفل الأهرام التابع للشرق الشامي
الفرنسوي.[5] وينقل
عن عبد الجليل التميمي قول الأمير عبد القادر
الجزائري: "إني أعتبر منظمة البنَّائين
الأحرار [الماسونية] كأول مؤسسة في العالم.
وفي رأيي أن كل رجل لا يجاهر بالعقيدة
الماسونية يُعَدُّ رجلاً ناقصاً. وأؤمل يوماً
ما أن أرى انتشار مبادئ الفرماسونية في
العالم. ويومئذٍ فإن كل الشعوب ستعيش في سلام
وأخوة.[6] وأهمية
أن يكون الجزائري ماسونياً – وهذا ما تُجمِع
عليه المصادر – تكمن في فهم كتابه الذي نحن
بصدده، سواء أكتبه قبل انتسابه أو بعده.
فالظاهر أنه كان على دراية كافية بها قبل
الانتساب إليها. ولكن الأفكار الماسونية
وحدها، في صيغتها الغربية، ليست كافية لفهم
ما كتبه الجزائري من أفكار في ذكرى العاقل
وتنبيه الغافل. وقصة
كتاب ذكرى العاقل وتنبيه الغافل أن عبد
القادر الجزائري قد اختير مراسلاً لمجمع
الخالدين في باريس؛ فكتب هذا النص إليهم، وقد
تُرجِم إلى اللغة الفرنسية. وإلى هذا الأمر
أشار الجزائري نفسه في تصدير الكتاب حيث قال:
"أما بعد، فإنه بلغني: أن علماء باريز –
وفَّقهم العليم الحكيم العزيز – كتبوا اسمي
في دفتر العلماء ونظموني في سلك العظماء،
فاهتززت لذلك فرحاً ثم اغتممت ترحاً: فرحت من
حيث ستر الله عليَّ، حتى نظر عبادُه بحسن الظنِّ
إليَّ، واهتممت من كون العلماء
استثمنوا ذا ورم، ونفخوا في غير ذي ضرم. ثم
أشار عليَّ بعض المحبين منهم بإرسال بعض
الرسائل إليهم. فكتبت هذه العجالة للتشبُّه
بالعلماء الأعلام، ورميت سهمي بين السهام،
وسمَّيت هذه الرسالة ذكرى العاقل وتنبيه
الغافل."[7] إن
تواضع الجزائري لهو تواضع الأمير وتواضع نفسٍ
متصوفة، تضع حالها في قدر أدنى حتى لا ينال
منها الغرور المذموم من قبل الصوفية. 2.
الطريق إلى الحقيقة: ينطلق
الجزائري من فكرة أن الحقيقة ليست وقفاً على
جماعة معينة أو فرد محدد؛ إنما هي ثمرة جهد
البشر بمعزل عن اعتقادهم وانتمائهم الإثني. فالعالِم
لا يهمُّه ما إذا كان الحق صادراً عمَّن حَسُن
الاعتقادُ بهم أم لا؛ ذلك أن الحق يُعرَف
بالدليل لا بالتقليد. وفي ضوء هذه الفكرة يقسم
الجزائري الناس إلى قسمين: قسم عالِم مُسعِد
لنفسه ومُسعِد لغيره – وهو الذي عرف الحقَّ
بالدليل لا بالتقليد؛ وقسم مُهلِك لنفسه
ومُهلِك لغيره – وهو الذي قلَّد آباءه
وأجداده فيما يعتقدون ويستحسنون، وترك النظر
بعقله، ودعا الناس لتقليده.[8]
بله إن الجزائري يرى أن بهيمة تُقاد أفضل من
مقلِّد ينقاد.[9] ولعمري
إن هذا الهجاء للمقلِّدين من قبل عالِم عاش
فترة أهم سماتها التقليد إنما يدل على ريادته
لتأسيس النزعة العقلية في مواجهة عصره – وهو
الذي قال بكل شجاعة: "إن أقوال العلماء
والمتديِّنين متضادة متخالفة في الأكثر،
واختيار واحد منها، واتباعه بلا دليل، باطل."[10] فالأساس
إذاً في امتلاك الحق هو العقل الذي لا يرضى
بأي مظهر من مظاهره إلا بالدليل العقلي. إذ
ذاك فإن معيار الحقيقة – لدى مؤلف ذكرى
العاقل وتنبيه الغافل – هو العقل، لا سيما
وأن لدى البشر استعداداً لإدراك الحقائق.
فإذا كان الأمر كذلك فكيف ينشأ الجهل إذاً؟ عن
هذا السؤال يجيب الجزائري، مبرزاً أسباباً
خمسة لنشأة الجهل: 1.
نقصان في ذات القلب، كقلب
الصبي. ولكلمة "القلب" هنا دلالة عقلية
من حيث هو مكان المعرفة. 2.
كُدُورات الأشغال
الدنياوية والخبث الذي يتراكم على وجه القلب
منها. 3.
العدول بالقلب عن جهة
الحقيقة المطلوبة. 4.
الحجاب. والحجاب هو أن يكون
العقل محجوباً باعتقاد مسبق، نشأ وقت الصبا
أو عن طريق التقليد. وهذا، كما يقول الجزائري،
حجاب عظيم حَجَبَ أكثر الخلق عن الوصول إلى
الحق، لأنهم محجوبون باعتقادات تقليدية رسختْ في نفوسهم
وجمدتْ عليها قلوبُهم. 5.
الجهل بالجهة التي يقع فيها
العثور على المطلوب.[11] هذه
الأسباب تمنع العقل من معرفة الحقائق.[12] 3.
محاولة في تحديد العقل: ولكن
ما هو "العقل" من وجهة نظر هذا الأمير
المستنير؟ يُطلَق
اسم العقل – كما يرى الجزائري – على أربعة
معانٍ بالاشتراك: 1.
الوصف الذي يفارق الإنسانُ
فيه جميع البهائم؛ وهو الذي استعد به الإنسان
لقبول العلوم النظرية. 2.
والعلوم التي تخرج إلى
الوجود في ذات الطفل المميِّز بجواز الجوازات
واستحالة المستحيلات، كالعلم بأن الإثنين
أكثر من واحد، وأن الشخص الواحد لا يكون في
مكانين في آنٍ واحد؛ وتسمية هذه العلوم عقلاً
ظاهرة، فلا تُنكَر. 3.
والعلوم التي تُستفاد من
التجارب بمجاري الأحوال؛ فإن من جرَّب الأمور
وهذَّبَه تخالفُ الأحوال يقال إنه عاقل في
العادة. وهذا نوع آخر من العلم يسمى عقلاً. 4.
وأخيراً معرفة الإنسان
عواقب الأمور. فالإنسان الذي يقمع الشهوة
الداعية إلى تناول اللذة المضرة يقهرها؛ فإن
حصلت هذه للإنسان سُمِّيَ عاقلاً.[13] واضح
إذاً أن العقل عند الجزائري هو جملة من الخواص
التي يتمتع بها الإنسان؛ وبلغة أكثر وضوحاً:
هو السمة التي تميز الإنسان عن الحيوان (أرسطو)،
من حيث إن الإنسان حيوان عاقل؛ كما أن له
أفكاراً فطرية سابقة على التجربة – وهذا مذهب
معظم العقليين في الفلسفة؛ كما أنه ثمرة
التجربة، كما هي الحال عند لوك وغيره من
الفلاسفة الاختياريين؛ وهو أيضاً القدرة على
التمييز بين الخير والشر، وهو معنى أخلاقي
للعقل. والعقل،
بما هو على هذا النحو، متفاوت بين الناس، من
جهة، ومشترك بينهم، من جهة أخرى. أما سبب
التفاوت، كما يرى الأمير، فهو بحسب خلقة الله
تعالى. فعقول الأنبياء ليست كعقول سائر
الناس، وعقل أبي علي بن سينا فائق على كثير من
العقول.[14] ويظهر
التفاوت في علم التجارب. فالناس متفاوتون في
كثرة إصابة الرأي وسرعة الإدراك، ومتفاوتون
في استيلاء القوة العقلية على قمع الشهوات؛
وسببُ ذلك التفاوتُ في العلم. وهناك تفاوت
غريزي، أي فطري؛ ومردُّ ذلك إلى حركة الشمس،
أي إلى الأحوال المناخية–الجغرافية.[15]
ولهذا يقسم الجزائري سكان الأرض إلى ثلاثة
أقسام: 1.
القسم الذي يسكن تحت خط
الاستواء إلى ما يقرب من المواضع التي
يحاذيها ممر السرطان؛ واسمهم العام السودان.
وهم أضعف الناس عقلاً وأوحشهم أخلاقاً.[16] 2.
القسم الثاني هو الذي يسكن
على رأس ممر السرطان إلى محاذاة بنات نعش؛ وهم
وسط المعمورة، كأهل العراق والشام وخراسان
وأصبهان. وهؤلاء أكمل الناس عقلاً وألطفهم
أذهاناً. وهم مختلفون بالكمال؛ يليهم في
الكمال سكان فرنسا، لأنهم وسط الإقليم
الخامس؛ ويليهم في الكمال سكان الأندلس. 3.
والقسم الثالث منهم سكان
المنطقة المحاذية لبنات نعش؛ وهم الروس
والصقالبة. فعقولهم ناقصة وأخلاقهم وحشية
وطباعهم باردة.[17] إن
أثر ابن خلدون واضح في هذا التقسيم المناخي–الجغرافي
للبشر وانعكاسه على عقولهم وأخلاقهم
وعاداتهم[18]
– وهو أمر، على أية حال، يسهل دحضُه. والعقل
نوعان: نظري وعملي. أما العقل النظري فهو
المدرك للكلِّيات؛ بينما العقل العملي هو
العلم، أي القوة العقلية باعتبار استنباطها
للصناعات الفكرية. والحكمة هي في استخدام
العقل النظري و العملي معاً. ولهذا فإن
الجزائري، رغم تقديره وإعجابه بعلماء فرنسا،
فإنه يأخذ عليهم إهمالهم للعقل النظري.[19] 4.
في التمييز بين العلوم العقلية والعلوم
الشرعية: يرى
الجزائري أن العلوم التي تحل في العقل تنقسم
إلى عقلية وشرعية.[20]
وتنقسم العلوم العقلية إلى قسمين: علوم
ضرورية، كعلم الإنسان بأن الشخص الواحد لا
يكون في مكانين في آن واحد – وهذا بلغتنا
المعاصرة هو المنطق؛ وعلوم مكتسبة، وهي علوم
مستفادة: بالتعليم والاستدلال والنظر. أما
العلوم الشرعية فهي المأخوذة عن الأنبياء.
وذلك يحصل بتعلُّم كتب الله المنزلة مثل:
التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، وفهم
معانيها بعد السماع؛ وبها يكمل العقل ويسلم
من الأمراض.[21]
ولا غنى للعلوم العقلية عن الشرعية، ولا
للشرعية عن العقلية. ولهذا كتب الجزائري
قائلاً: "فالذي يدعو الناس إلى التقليد
المحض، مع عزل العقل، جاهل. والمكتفي بمجرد
العقل عن العلوم الشرعية مغرور. فإياكم أن
تكونوا من أحد الفريقين، وكونوا جامعين
بينهما."[22] هل
هناك من تناقض بين العلوم الشرعية والعلوم
العقلية؟ يجيب الجزائري بالنفي، رغم وجود
التمايز بينهما. إذا
كانت العلوم الشرعية هي المأخوذة عن الأنبياء
والكتب المنزلة جميعها، وإذا كانت العلوم
العقلية وحدها غير كافية، فعلى الجزائري إذاً
أن يدلِّل على النبوة ويعرفنا عليها. فالنبوة
"طور تنفتح فيه عينٌ أخرى زائدة على طور
العقل ونظره"[23]،
عين ينظر بها النبي ما يكون في المستقبل من
أمور لا يدركها العقل. هذه العين خاصة
بالأنبياء، كخاصية ذوق الشعر في قوم من الناس
وحرمان البعض منه. ولكن
مفهوم النبي لا ينفصل عن مفهوم الله: "فإذا
ثبت أن الله تعالى فاعل مختار، لا علَّة
موجبة، وثبت أن إرسال الأنبياء ممكن غير محال
في حقِّه، وجاء الأنبياء بما يصدِّقهم من
المعجزات الخارقة للعادة، لزم تصديقُهم."[24] ولما
كان الجزائري يرفض التقليد ويعوِّل على
الدليل العقلي فإنه يقدم الدليل العقلي
التالي على أن الله فاعل مختار: فالأجسام
الموجودة متناهية، وكل متناهٍ فهو مشكَّل،
فالأجسام الموجودة مشكَّلة. والأشكال قسمان:
أشكال حصلت على سبيل الاتفاق من غير أن يحتاج
حصولها إلى فعل فاعل حكيم؛ والأشكال التي
يشهد صريح العقل بأنها لم تحصل إلا بقصد فاعل
حكيم. والأشكال من النمط الثاني تدل على تدخل
الإرادة الإلهية، لما فيها من مصالح ومنافع.
وبما أن الأشكال التي حصلت بفعل فاعل حكيم
تدلِّل على الفاعل المختار، ثَبَتَ حدوث
العالم. ومن عرف هذا سهل عليه معرفة النبي.[25] إن
هذا الدليل لهو دليل مشهور، وهو الانطلاق من
النظام إلى المنظِّم. إذ يعتقد أصحاب هذا
الدليل أنه لا يُعقَل أن تجري الأمور في
الكون، على ما هي عليه من نظام، دون عقل
مدبِّر لها هو الله. ثم،
بعد أن يعرض الجزائري حُجَجَه في إثبات
النبوة بعامة، ينبري للتدليل على دحض الشك في
شخص النبي. ولا يحصل اليقين فيما إذا كان شخص
ما نبياً أم لا إلا بمعرفة أحواله، إما
بالمشاهدة أو بالتواتر والتسامع. ولما كانت
المشاهدة غير ممكنة دائماً فهي ليست وسيلة
التحقق، وإلا طال الشكُّ كل ما لا يقع في حقل
المشاهدة. وبالتالي لا بدَّ من الاعتراف بصحة
التواتر.[26] 5.
في أساس الدين: أساس
الديانة وأصولها لا خلاف فيها بين الأنبياء،
من آدم إلى محمد. ذلك أنهم كلهم يدعون الخلق
إلى توحيد الإله وإلى حفظ النفس والعقل
والنسل والمال.[27]
هذه الكلِّيات – كما يقول الجزائري – لا خلاف
فيها. أما الخلاف بين الأنبياء فيكمن في كيفية
حفظها ووضع القوانين لدوام بقائها محفوظة.[28]
وهذا ما هو معرَّض للنسخ. وفائدة
النسخ إما على تقدير كون الأحكام الشرعية
معلَّلة بمصالح العباد – فيمكن أن تختلف
مصالح الأوقات فتختلف الأحكام بحسبها؛ وإما
على تقدير أن الأحكام الشرعية مستندة إلى محض
إرادة الله من غير مراعاة مصلحة – فيمكن أن
يضع حكماً ويرفع حكماً. فالأحكام
إذاً هي القابلة للنسخ بسبب تفاوت الأعصر في
المصالح، من حيث إن كلَّ واحد من الأحكام حقٌّ
بالإضافة إلى أهل زمانه؛ أما "الدين فواحد،
باتفاق الأنبياء، وإنما اختلفوا في بعض
القوانين الجزئية. فتكذيب جميعهم أو تكذيب
البعض وتصديق البعض قصورٌ."[29]
واستناداً إلى هذه الأطروحة، لا يرى الجزائري
خلافاً بين المسلمين والنصارى: "ولو أصغى
إليَّ المسلمون والنصارى لرفعتُ الخلاف
بينهم."[30] وعلوم
الأنبياء، من حيث خطابهم للعامة، دائرة على
ما يصلح الناس في معاشهم ومعادهم؛ وبالتالي
لا تناقض بين خطابهم والفلسفة أو العلوم. "وما
جاءوا ليجادلوا الفلاسفة، ولا لإبطال علوم
الطب ولا علوم النجم ولا علوم الهندسة."[31]
ومن يعتقد أن العلم يناقض الدين فقد جنى عليه.[32] *** لقد
حاولنا – بقدر ما أوتينا من موضوعية – أن
نُبرِز الأفكار الأساسية التي جاء بها
الجزائري عبر كتابه الآنف الذكر، دون أن نقف
منها موقفاً نقدياً. وليس أسهل على ناقد ينتمي
إلى معارف أول القرن الواحد والعشرين من أن
يُبرِز جوانب الضعف في هذا الخطاب الذي ينتمي
إلى القرن التاسع عشر! لكن دلالة هذا الخطاب
الراهنة تجعله حاضراً في مرحلة يعود فيها
الاختلاف على أشده حول مسائل كنَّا نعتقد
أنها أصبحت في خانة الماضي. من هنا تبرز
الوظيفة الإيديولوجية لمفكِّر كالجزائري
لتحقيق نوعٍ من التراكم الضروري للحوار. فالجزائري
– العربي المسلم – يدافع في وقته عن العقل
وحقِّ العقل في النظر إلى المسائل، ويعيب
التقليد الأعمى للسلف الصالح، ولا يرضى
بالسلف، إلا إذا أحاله إلى محكمة العقل.
فالدفاع عن العقل وحقِّه في تأكيد هذه الفكرة
أو تلك أو نفيها لهو دفاعٌ عن الحرية في بعض
جوانبها. والحرية إنما تقف موقفاً مناهضاً
لكلِّ أشكال التعصب القائمة على الاستمساك
بالماضي بدعوى التقليد الأعمى. ولهذا ففي فكر
الأمير نزعة تسامح نكاد نفتقدها في مستهل
القرن الواحد والعشرين وفي وطننا العربي. ولأن
فكرة العقل التي يدافع عنها الجزائري فكرةٌ
عامة ومشتركة بين الناس فإن للحقيقة طابعها
الإنساني العام، حيث إن الحقيقة جهد البشر
جميعاً، بمعزل عن انتماءاتهم الإثنية
والقومية. لهذا لا يسأل الجزائري عن مصدر
الحقيقة، بل عن الحقيقة لذاتها. فانتماؤه إلى
الإسلام كثقافة ودين لا يمنعه من اكتساب
الحقائق ممَّن هم على غير دينه وثقافته. والحقيقة
عامل توحيد بين البشر، رغم اختلافهم. وهذا ما
ينزع عن الدين صفة التعصب التي هي أحد أسباب
الانقسام الطائفي. ومن هذه الزاوية فإن
الجزائري، إذ يميِّز بين الحقيقة الإلهية (كالتوحيد
مثلاً) وبين الأحكام التاريخية، فإنه يبحث عن
ذاك الذي يزيل الاختلاف بين المنتمين إلى
الأديان المختلفة التي توحِّدها حقيقة واحدة. والنقطة
الأبرز في خطاب الجزائري هي العلاقة بين
العقل والنقل التي دفعته للحديث عن العلاقة
بين الأحكام الشرعية والتاريخ. فالأحكام
تتغير بتغير "الأعصُر" والأزمان. أما
الذي يُعيب من يقول بالنسخ فهو جاهل بتدبُّر
الأحوال. وإلى
جانب هذا وذاك، يمسُّ الجزائري مسألةً سيجري
حولها نقاشٌ طويل فيما بعد، وخاصة على يد طه
حسين، ألا وهي العلاقة بين الدين والعلم. فليس
من الدين في شيء أن تدحض حقائق العلم، بله
الفلسفة باسم الدين. ولهذا فهو مع حرية البحث
العلمي والتأمل الفلسفي، يدافع عن المنطق
والعلوم المكتسبة كما يدافع عن الإيمان عن
طريق العقل. الجزائري،
بهذا المعنى، رشدي النزعة العقلية، خلدوني
النزعة الاجتماعية، ديكارتي في الدفاع عن
العقل، بيكوني في الهجوم على الأوهام، وخاصة
التقليد، ماسوني في عالميَّته، إسلامي في
توحيده. وإذا
كان الجزائري يهدف إلى تجاوز تناقضات عصره
عبر هذه المنظومة الجديدة (في مرحلته) من
الأفكار فإن تجاوز تناقضات عصرنا هو في الوقت
تجاوز الجزائري على نحو أرقى، وليس نكوصاً
بالقياس إليه أو وقوفاً عنده. وما كان من
المجدي العودة إلى الجزائري إلا لأنه متقدِّم
على عدد كبير ممَّن يعتقدون أنهم يبحثون عن
الخلاص. إن
روح التجديد هي التي تجعله قريباً من روح
العصر. ولهذا فإن أفكار الجزائري هي "ذكرى
للعاقل وتنبيه للغافل" حقاً! *** *** *** نقلاً
عن مجلة النهج، العدد 38، السنة 11، شتاء 1995 [1]
أنظر ميخائيل مشاقة، منتخبات من الجواب
على اقتراح الأحباب، تحرَّى نصوصها ووضع
مقدمتها وفهارسها أسد رستم وصبحي أبو شقرا،
بيروت 1985، ط 2، ص 19. [2]
أنظر وجيه كوثراني، الاتجاهات
الاجتماعية والسياسية في جبل لبنان
والمشرق العربي، بيروت 1982، ص 143. [3]
نقلاً عن كتاب
كوتلوف، تكوُّن حركة التحرر في المشرق
العربي، دمشق 1981، ص 255. [4]
حسين عمر حمادة، الماسونية
والماسونيون في الوطن العربي، دمشق 1986، ص
103. [5]
المصدر ذاته، ص 104. [6]
المصدر ذاته، ص 106. [7]
عبد القادر
الجزائري، ذكرى العاقل وتنبيه الغافل،
بتحقيق وتقديم د. ممدوح حقي، بيروت 1966. [8]
المصدر السابق، ص 34. [9]
المصدر السابق، ص 35. [10]
المصدر ذاته، ص 3. [11]
المصدر ذاته، ص 36–37. [12]
تذكِّرنا أسباب
الجهل عند الجزائري بالأوهام لدى بيكون، مع
الاختلاف طبعاً في زاوية النظر إليها
والاتفاق في مسألة مهمة جداً، ألا وهي
التقليد. [13]
المصدر ذاته، ص 49–50. [14]
المصدر ذاته، ص 52.
ويورد الجزائري الحادثة التالية على سبيل
الفكاهة الدالة على تفاوت العقول: إن
الرازي قال يوماً للآمدي: "لِمَ حَسُن
إهلاكُ الحيوانات وذبحُها للإنسان؟"
فقال الآمدي: "إهلاك المفضول لمصلحة
الفاضل هو عين العدل." فقال الرازي: "إذاً
يحسُن ذبحُك أنتَ لأبي علي بن سينا." [15]
المصدر ذاته، ص 54. [16]
المصدر ذاته، ص 54–55. [17]
المصدر ذاته، ص 55–56. [18]
راجع مقدمة ابن
خلدون، ص 44–87. [19]
الجزائري، المصدر
المذكور، ص 67. [20]
المصدر ذاته، ص 82. [21]
المصدر ذاته، ص 82–83. [22]
المصدر ذاته، ص 82.
لاحظ أن الجهل، كصفة للمقلِّد، هي أشد
بكثير من الغرور الذي هو صفة للمكتفي بمجرد
العقل. [23]
المصدر ذاته، ص 91. [24]
المصدر ذاته، ص 93. [25]
المصدر ذاته، ص 97. [26]
المصدر ذاته، ص 100. [27]
المصدر ذاته، ص 101. [28]
المصدر
ذاته، الصفحة ذاتها. [29]
المصدر ذاته، ص 107. [30]
المصدر ذاته، الصفحة
ذاتها. [31]المصدر
ذاته، ص 108. [32]
المصدر ذاته، الصفحة
ذاتها.
|
|
|