|
الديانة
الفرعونية
أفكار
المصريين عن الآخرة
تقديم*
يوسف
سامي اليوسف
الأشياء
مقمَّطة بنواميسها. وهذا هو ناموس
النواميس كلِّها على الإطلاق. وأبدى نواميس
الأشياء، بعد هذا الناموس الأول، أن اللاحق،
بحكم الجبر الحاتم، من شيعة السابق أو من
سلالته. فما من شيء، في الأرض أو في السماء،
خارج السياق الكوني العام، وما من شيء، في
المطلق، يملك أن يأبق من هذا المجرى الكلِّي
القادم من الأزلية نفسها. حقاً، ما من شيء
ولا من كائن، أياً كان، إلا وهو منخرط في هذه
السمفونيا العالمية الواحدة. أذهب هذا المذهب
من دون أن أغمط أيَّ شيء حقَّه في أن يعترف له
العقل بصباغه الخاص، بتلوينه الذي يُفرِدُه
ويَفرزُه عن أيِّ شيء آخر. حتى أظافرك وشعر
حاجبيك قد أتاك بها التيار، المحلِّي أو
الكوني، في قدومه من الأزلية واندفاعه صوب
الأبدية. فوردة الأزل ذات التلاوين التي لا
تحصى والتماوجات التي لا تتوقف البتة، وردة
الأزل لا تكفُّ عن التفتح الدائم على الإطلاق؛ وإذ تتفتَّح فإنها تجيء بما لا عين
رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. وما
هذه الأكوان طراً إلا "نفحة من وردة الأزل"،
على حد عبارة أحد الصوفيين. ماذا يعني أن
يقال: ما من شيء خارج السياق؟ يعني أنْ لا بدَّ
من الاعتقاد بمنطق التخوم المتحاضنة
والمتداخلة. فالوصال يؤسِّس الكون والكائنات، وما من كائن إلا وهو ممدود
بمَدَدٍ من الجميع، والأشياء نتاج تناسل
كوني سرمدي، يتخارج بعضُها من بعض كما يتخارج
الأطفال من أرحام أمهاتهم. المطلق مفتوح،
والأمداء لا تتناهى، وما من كائن إلا وهو واقف
على مفرق دروب مروحية الصورة. والنداءات
والاستجابات – نداءات البعيد والعميق،
واستجابات الجوهر والماهية – تواظب على
الفعل والانفعال؛ ولكن شريطة ألا نغفل
الاستقلال والتمايز. فالفصال كائن بإطلاق، بل
رابض في قلب الوصال؛ بل إن بينهما تحالفاً
وتواطؤاً مدهشين، ولا يكاد العقل أن يعقل
الأمر بغير صعوبة وعسر. مؤبَّدة هي
الفواصل، وسرمدية هي المسافات التي تُفرِد
وتَفرز. ولولاها لما كان إلا الخاووس (العماء
أو الاختلاط المشوش)؛ ولولاها لما قُدِّر
للناموس أن يكون على الإطلاق. فعلى جدل الوصال
والفصال، جدل التواطؤ والتفارق، يتأسَّس
المطلق برمَّته؛ وبوقود هذا الجدل العجيب
تدور عجلة الحياة. وهذا يعني أن
الخلق استنفار لمُضمرات الكائن الفعلي، أو
قُلْ بعبارة لا تعوزها النكهة الفلسفية: من
الـ"ما يكون" يشطأ الـ"ما ليس بعدُ".
والأشياء حين تتفجَّى عنها مخاضاتُها إنما
تنجب بما هو إياها وما هو ليس إياها في آن واحد.
وههنا يتبدَّى جدلُ التماهي والتمايز في أنصع
آنائه وأكثرها وضوحاً. وهذا يعني أيضاً
أنك حين تأخذ ما هو ناجز فإنك تكون قد أخذت ما
لم يُنجَز بعدُ. ففي الناجز دوماً تربض
النويَّات الجنينية للقابل، وإن كان الشيء،
حين يسافر، في المكان أو في الزمان، لا يبقى
كما هو على الإطلاق. والشيء مسافر على الدوام،
والسفر عبور في التلاوين إلى ما لا نهاية.
فالانتشار في الأماكن انتشارٌ في الأزمان،
قبل كل شيء، في الأحوال أو في الأطوار، سيان. وأهم ما في الأمر
أن القول بالانتشار من البؤرة، انتشار
الحضارة من مصر، مثلاً، أو قُلْ من مصر
والهلال الخصيب معاً، في العالم كلِّه، لا
يعني البتة أن الوارث يتَّبع ولا يبتدع (كما
يريد أفلاطون)؛ بل إن الوارث لا يستحق الوراثة
ولا ينالها إلا بقدر حيازته على الطاقات
الاشتقاقية الخلاقة. فهو دوماً يستنبط أو
يشتق ما لم يكن بعدُ مما هو كائن بالفعل،
تماماً كما تستخرج القابلة كائناً جديداً من
رحم الوالدة الناجزة؛ وإلا فهو هابط أو في
الانحدار. وكل ما ينحدر لا يرث، لأن الوارث هو
الصاعد على الدوام. وفي العبث أن يردَّ الوظيفيون على الانتشاريين بأن للشيء
وظيفة يؤديها في مكانه وزمانه وحسب، بحيث لا
يكون صالحاً إلا في مجاله الحي، لأن مثل هذا
الرد لا ينطوي إلا على نظرة لا ترى في الأشياء
غير دوائر يتغلَّق كل منها على نفسه وينفصل
عما سواه. وتلكم هي نظرية أرسطو في القطيعة
المؤبدة بين الكائنات. وهكذا يتبخر الوصال
والاستمداد، ولا يبقى إلا الآنية الموقوتة
المعزولة المغلقة. فيا له من عقل خائر عقل
أفلاطون وأرسطو! فالأول يريد اتِّباعاً بغير
إبداع، وتكراراً ميتاً لتقليد ممات، والثاني
يريد قطيعة بين كائنات تصمُّ آذانها عن
النداءات المنغومة، نداءات التحاضن والوصال. إن الشيء يطور
على نسق رأسي، والشيء ينتشر كبقعة الحبر إلى
الجهات طراً، والشيء أُنيطَت به وظيفةٌ
يؤديها. وليس هذا المذهب بمحاولة للوساطة بين
مدارس ثلاث متضادة في الأنثروبولوجيا
الحديثة، بل هو فقط رصد موضوعي للواقع الحق.
إن الشيء يطور في مكانه، ويطور إذ ينتشر أو
يرحل إلى أماكن أخرى. وهو بالفعل يرحل لكي
يؤدي في الهناك وظيفة ما، ولكن لكي لا يظل هو
هو: فإما أن يؤدي وظيفة وإما أن يتلاشى. وليس
في هذا كلِّه ما يفوق طور العقل أو يخرج عن
بؤرة الحق. فلِمَ الخلاف بين المدارس الثلاث
مادام الأمر بهذه السهولة؟ كثيراً ما يختلف
الناس لكي يختلفوا وحسب! ولكن أكثر الناس
بعداً عن الحق في هذا المضمار هم أولئك الذين
يعطِّلون مقولة الانتشار؛ إذ هم بهذا التعطيل
يؤكِّدون مطلقية الفصال، ويزعمون – ولو
ضمنياً – بأنه لا وجود إلا لهذا الآن وهذا
الهنا، حتى كأن ليس ثمة هناك ولا قبل ولا بعد. ما من شيء إلا
ويندلع من رحم الأزلية الأقدس. ما من شيء إلا
ويبدأ في الأزلية. والقبل والبعد مطلقان
ينبضان في شرايين الكائنات. وكل من ظن أنه بدأ
من الصفر آثم بحق الكينونة. * بيد أن أهم
الأسئلة هو هذا: أين يبدأ التاريخ؟ مبدئياً،
علينا أن نرفض تقسيم تاريخ العالم إلى ثلاثة
أطوار: قديم ووسيط وحديث؛ إذ ما هذا بتقسيم
لتاريخ العالم، وإنما هو تقسيم لتاريخ أوروبا
وحدها. بل يبدو لي أن تقسيم تاريخ العالم شيء
أشبه بالمستحيل لأن كل دائرة حضارية لها
أطوار زمانية تخصها وحدها دون سواها من
الدوائر الأخرى. وعندي أن الأساس الوحيد الذي
يصلح لتقسيم تاريخ العالم كلِّه هو الأخذ
بمقولة القوة الطليعية. فمثلاً، حين نرى
مصر تؤسِّس الدولة القُطرية لأول مرة في
التاريخ نقول بأن الطور القطري قد بدأ، علماً
بأنه ما من مكان آخر على الأرض يومذاك كان قد
بلغ هذا المبلغ باستثناء مصر؛ وحين نرى
الأخمينيين يؤسِّسون – ولأول مرة في التاريخ
– الدولة الإمبراطورية ذات المساحة الشاسعة
والشعوب المتباينة اللغات والأديان، نقول
ثمتئذٍ بأن العصر الإمبراطوري أو عصر
الإمبراطوريات الكبرى قد بدأ. وأياً ما كان
جوهر الشأن فإن في ميسورنا أن نصمِّم تقسيماً
صحيحاً للأحقاب التاريخية للمنطقة المنداحة
بين الدجلة والنيل، أي لمصر والهلال الخصيب.
ولكن دعنا، قبل كل شيء، نحدد العنصر الحاسم
بين البدائية والحضارة، ثم بين الحضارة
التاريخية والحضارة السابقة على التاريخ.
وعندي أن الخلاف الذي دار طويلاً بين
الأنثروبولوجيين الغربيين ابتغاء فرز
الحضارة البدائية عن الحضارة اللابدائية هو
خلاف لا مسوِّغ له على الإطلاق. ببساطة: إن
الزراعة والعمارة (الطينية أو الحجرية أو حتى
الخشبية) هما الفاصل الأكبر بين الحضارتين،
أو بين البدائية والحضارة. فلا ريب في أن
الحضارة هي الاستقرار والفعل البشري في
التربة. أما الفرق بين
الحضارة التاريخية والحضارة اللاتاريخية فهو
الدولة والكتابة. فحين تظهر الدولة المعقدة،
الدولة ذات الجيش والشرع والمنظومة الهرمية
التي يتربع فوقها ملك أو أمير، التي تمارس
فيها الكتابةُ وظيفة كبرى، حينذاك تماماً
يبدأ التاريخ. والأحقاب التي لم يستطع
المؤرخون أن يكشفوا عنها لا يمكن القول بأنها
أحقاب لاتاريخية أو سابقة للتاريخ، بل يمكن
أن تسمى بالمنسيات التاريخية. وسواء أكان هذا
المذهب مقبولاً أم خاضعاً للتمحيص فإن
الأحقاب التاريخية لمنطقتنا، بعد حذف
المرحلة البدائية والقرية الزراعية، ثم
مرحلة البلدة المركزية التي تتمركز حولها
ديرة صغيرة مساحتها أضيق من مساحة الصقع،
وكذلك بعد حذف مرحلة المدينة الصغرى التي
تتواصل خلالها عدة ديرات وترتبط بمركز واحد
فيتشكل الصقع – إن الأحقاب التاريخية
لمنطقتنا هي هذه: أولاً:
طور الإقليم والمدينة الكبرى: الآن تصير
الدولة والكتابة واقعين فعليين، ويظهر الملك
والعرش والتاج والصولجان، والجيش والقانون،
والدين المتطور النازع إلى التجريد
والمكوَّن من جملة أساطير ذكية ورمزية. والآن
تزدهر التجارة والمهن الحرة، وتصبح الزراعة
أغنى لأن الدولة تتدخل في الإنتاج من خلال
مشروعات الري. ويتم تقسيم العمل وتظهر
الطبقات جلية متمايزة، وتتكدس رؤوس الأموال (الذهب
والفضة) في أيدي قلة ضئيلة من الناس، وفي
خزائن الملك بالدرجة الأولى. ولا يمكن لهذا
الطور أن يكون بغير كتابة، ولو من خلال منظومة
فجة من الإشارات؛ وحتى اللغة المحكية تتبدل
وتنزع إلى التجريد والداخلية. وقد مرت مصر في
هذا الطور في غضون الألفية الرابعة ق م. وقد
أنهاها الملك مينا يوم وحَّد التاجين
الشمالي والجنوبي في تاج واحد عام 3200 ق م. أما سومر
فقد ظلَّت فيه حتى قيام دولة أكد حوالى
القرن الرابع والعشرين ق م. ثانياً:
مرحلة القطر، أو الدولة القومية: لسنا
نعرف دولة قومية قبل مصر، أقصد دولة يسكن
شعبها الواحد في إقليم واحد واسع. ومن
المؤرخين من يذهب إلى أن تاريخ العالم يبدأ
يوم دخلت مصر في هذا الطور الجديد الذي لا
نعلم له مثيلاً من قبل. وقد حاولت مصر أن
تختم هذا الطور الذي دام طويلاً وذلك
بالانتقال من الوضع القطري إلى الإمبراطوري،
ولكنها لم تنجز الوضع الجديد إنجازاً نموذجياً، لأن مصر لم تكن ترغب في الانتشار
خارج مصر إلا قليلاً؛ فهي لا تريد أكثر من
مجالات عسكرية صغيرة لا غاية لها إلا الدفاع
عن حدود مصر. ثالثاً:
المرحلة الإمبراطورية: والأخمينيون هم
أول من أنجز هذه المرحلة بشكلها النموذجي في
النصف الغربي من الكرة الأرضية (وربما في
العالم كلِّه، لأن إمبراطورية الصين هي
إمبراطورية قومية). وقد صار هذا الإنجاز
نموذجاً تحتذيه جميع القوى التي أتت إلى
الوجود في حوض المتوسط وآسيا الغربية، منذ
الإسكندر المكدوني وحتى الساعة الراهنة. رابعاً:
مرحلة الانهيار الأول: تحطمت منطقتنا
تحت ضربات الحروب الداخلية – حروب العراق
والشام والعراق ومصر – في النصف الأول من
الألفية الأولى ق م، وكذلك تحت ضربات
الأخمينيين واليونان والرومان. وبذلك أصبح
تاريخنا يُصنَع من الخارج، وأخفق هنيبعل
في صيانة الاستقلال ودحر الأغيار. وهكذا
اضمحلت دائرة الفرعون طوال مدة تزيد على ألف
سنة. خامساً:
الطور المسيحي–الإسلامي: في
هذا الطور ما عاد تاريخ منطقتنا محلياً؛ بل هو
لم يعد كذلك منذ ظهور كورش في القرن السادس ق م.
وفي هذا الطور (أو بين القرنين الرابع والسابع)
بزغ العالَمان المسيحي والإسلامي إثر انهيار
الحضارة اليونانية–الرومانية. ودار بينهما
صراع مرير، لعله أحر وأمض صراع عرفته البشرية
طوال تاريخها كلِّه. وانجلى الموقف بعد زهاء
أربعة عشر قرناً عن انهيار العالم الإسلامي
وتمزقه تحت ضربات الأغيار، وكذلك عن تخلِّي
أوروبا، أو الدائرة المسيحية برمَّتها، عن
مسيحيَّتها. ولقد تحول المجال
المسيحي إلى الطور العلمي. أما المجال
الإسلامي، أو أقلَّه المجال العربي، فقد راح
يختنق في مرحلة هلامية لزجة لا تميزها ميزة
إيجابية يمكن أن تكون لها بمثابة العنوان. بيد
أن في ميسورنا أن نطلق عليها اسم الانهيار
الثاني أو المرحلة السادسة. هذه هي، إذن،
الأطوار الستة لتاريخ دائرة الفرعون ابن
الشمس. وإنك لترى أن مصر هي حقاً أسُّ الدهر
التاريخي، وأمُّ الدنيا، ورحم الحضارة
الجليلة. فكل ما هو عالٍ ورفيع في تجربة
الإنسان إنما جاء به السياق العالمي بعد ما
مرَّ بالصباغ الفرعوني، بلون الفرعون
العظيم، والد كل سياسة فارهة وثقافة كونية
المنزع. وهذا يعني أن الإمبراطوريات التي
تشكلت على أرض مصر بعد انهيارها، أو إلى جوار
مصر، أو في حوض البحر المتوسط، أو حتى في آسيا
الغربية كلِّها، إنما استلهمت روح الفرعون
واصطبغت بصباغه. ففي التاريخ ما من مبدأ منطقي
أصدق من هذا المبدأ: "بعقبه، إذنْ بسببه"،
مما يتضمن أن الـ"ما قبل" يفقِّس الـ"ما
بعد" بالضرورة. فعندي أن الروح البشري لا
يملك أن يصير إلى الرفعة ما لم يبحث – مهموماً
– عن الشروش المستدقة للأشياء، عن أولى
الينابيع المؤلفة لهذا المجرى العظيم. في مصر، إذن –
لأول مرة في التاريخ – استيقظت الذات المنزهة
منذ دهر لا يخضع لمقاييسنا. أيقظها الزمن
الغفل لتوقظ الزمن الناجز. وقبل مصر كانت
الكينونة البشرية عجراء، مثقلة بفجاجتها
المعرقِلة لوثباتها الفتية. ومع مصر صار
الإنسان – صار التاريخ – شاباً يانعاً
مترفاً بمنجزات روحه. * بيد أن دائرة
الفرعون قد انهارت مرتين في التاريخ؛
وانهيارها الثاني هو بالضبط أزمتنا الراهنة.
فيبدو أن جيلنا قد أتى الزمان على الهرم، بحيث
بات الانتماء إلى الشرق، أو قُلْ حصراً إلى
صحارى القحل والرهل هذه، ضرباً من العار أو من
الانتماء إلى العار. فنحن – أقصد ورثة خوفو
وحمورابي، واليسوع ومحمد – لا يستغرقنا شيء
أكثر من إقامة الأعراس للمجبوبين والعاجزين
عن الإنجاب والإخصاب. ولقد خسرنا وجدان الخجل.
فنحن فعلاً ما عدنا نخجل من عارنا الأدهم الذي
يسربلنا من سمت الرأس حتى أخمص القدم. وإن كنت
أعرف شيئاً معرفة يقينية فهو عجزي المطبق عن
وصف هذا العجز المغلغل في دائرة الفرعون، هذه
الأيام، وصفاً يكتنه سرائر الأمور ويفض
مكنوناتها. بيد أن المرء لا يجانب الصواب إذا
ما لخص هذه الظاهرة بقوله: إن دائرة الفرعون
ما عادت تملك الإنسان – أقصد إنسان
البسيكولوجيا لا إنسان البيولوجيا، إنسان
النبض الحي القادر على الإسهام في دفوق
التاريخ. ما نطمح إليه
ثورة استقلابية كلية. وتحتاج مثل هذه الثورة
إلى رجال يقايسون الكون بقاماتهم العملاقة،
رجال مفطورين على الجبروت. ولكن دائرة
الفرعون باتت قاحلة ماحلة، وهي تفتقر حتى إلى
الطعام؛ فما بالك برجال الحرارة من ذوي
المواهب الاشتقاقية والاستطاعات
الاختراقية؟! ولكن علينا أن نختار: فإما هذا
الخمج والرهل اللذان نتمرغ فيهما يومياً،
وإما اشتقاق الزمان من رحم الخواء الفارغ
الذي هو نحن بالضبط. وعند هذه المفارقة أو
الأحجية المقفلة لا بد للأساطين والدهاقنة من
أن يقفوا محتارين. كيف نجعل دائرة الفرعون
مجالاً موَّاراً بالجيشان والسَّورة؟ وأنَّى
لنا بقيمة عليا، فتية ويانعة، ننسج بها رداء
التاريخ؟ أنَّى لنا بهذا والعصر فاتر،
والعالم كله يفتقر أيما افتقار إلى التولُّه
بشيء ما يسمو إلى أفق الروح؟ بل أكاد أزعم أن
الإنسانية برمَّتها عليها أن تختار: فإما أن
تنقذ نفسها من خوائها الجَوَّاني الناشف،
وإما أن تجنح إلى الاضمحلال، أو التقهقر صوب
الحيوانية، على المدى الطويل. فالإنسان لا
يحتمل خواء وجوده وتخثر روحه إلا على مضض. * بعد
وفاة رمسيس الثالث في أواسط القرن الثاني عشر
ق م، راح الهرم يدب في أوصال مصر، راحت
خلاياها تجنح إلى التليُّف، وشرايينها إلى
التصلب، وبانت عليها الشيخوخة التي إذا ما
حلَّت بالمجتمع فإنها لا ترتفع، وفقاً لمذهب
ابن خلدون. وأخذت عناصر
الهدم في داخل مصر أو على هوامشها تنعق وتصرخ
بملء أشداقها بأن فرعون قد طغى. الفرعون، ابن
الشمس والنور، مؤسِّس العدل والقانون
والمحكمة النزيهة وديانة العدالة، ديانة ماعت،
ديانة "الميزان" (كما سترى في هذا الكتاب
الراهن)، لا بدَّ له من أن يتبدَّى على عكس ما
هو عليه تماماً، وذلك لأن الآفاق والأرجاء قد
باتت مخنوقة بالحقد الأسود. ومنذ ذلك الحين
وحتى يوم الناس هذا ونحن نردِّد بأن الفرعون
طاغية. وعبثاً يحاول الصوفيون الإسلاميون،
بما اشتهروا به من تسامح، ومن رجاحة عقل، ورفض
للتقليد الغريزي، أن يعيدوا إلى الفرعون ما
يستحقه من كرامة ومكانة في مسار التاريخ. ما
رأيت داء أكثر انتشاراً وأكثر خطورة من داء
الببغاوية، داء المصاداة الحاذف لكل تعقُّل
مهما يكُ طفيفاً. وعندي أن بداية اقتناء
الحكمة التحرر من هذا البلاء الخبيث. وعبثاً يحاول
ديودورُس الصقلي، الجغرافي والمؤرخ المشهور،
أن يبيِّن للعالم عدالة الفرعون وشدة اعتنائه
بالشرع والحق، وذلك بعد انقراض الفراعنة
بمئات السنين. لقد قالت العناصر السوداء بأن
الفرعون طاغية، فراحت أصداء هذا القول تتجاوب
في فضاء التاريخ الواسع، وظلت تتجاوب إلى أن
جاء القرن العشرون، أو القرن السالف، ليبيِّن
أن ذلك الزعم لم يكن إلا محض هراء وحديث إفك.
إنها النزعة التدميرية التي لا تريد أن
تستبقي شيئاً سوى الخراب، نزعة القوة التي
تدمر ولا تنشئ، والتي لا تشعر بالخجل حتى حين
تثبت إدانتها أمام الملأ. والكتاب الذي بين
أيدينا محاولة جادة حقاً للكشف عما فحواه أن
ضمير الإنسانية قد تأسَّس في مصر على أرفع نحو
معروف. أجل، على ضفاف النيل، وقبل سبعة آلاف
سنة من الآن، كان الإنسان ينسج حرير ضميره
النقي. وبينما الإنسان يومذاك يفلح في تزكية
نفسه ويخرج من عدوانية الهمجية وشرتها فقد
كان يؤسِّس ويطور الحضارة التاريخية
العالية، ويرقِّي مشروعه البشري المتقدم
ويدفع به إلى الأمام. فما كان في الميسور قط أن
تبدأ الحضارة إلا من جَوَّانية الإنسان حيث
ترخم استطاعات لا تخضع للقياس. أما الإنتاج،
وأما نمط الإنتاج، فهو بالضبط الشرط الأول،
الحامل المطلق لكلِّ وجود بشري؛ ولكنه الشرط
الذي لا يكفي قطعاً، أو السبب الذي لا يسبب
إلا إذا شَرَطَه ورافقه وتفاعل وإياه الفعل
الجَوَّاني الأصيل والهيف الإنساني النبيل. فبين حضارة نقادة
وبين الملك مينا، مؤسِّس التاريخ، لا بدَّ
لاكتشاف الذهب من أن يكون قد تم بالفعل؛ إذ لا
محيد عن حامل ثابت للقيم المادية، وإلا تعذر
الوصال بين المتنائيات. بيد أن الزعم الربوي
القائل بأن الفرعون ينبع من الذهب لا ينمُّ
إلا عن رغبة عارمة في التقاعس عن الذهاب إلى
البعيد والعميق. إنه الشوط القصير والأمد
القريب، المعبِّر عن نضوب الطاقة النظرية
والنقص المريع في الحكمة والتعشق المرهف
بالحقيقة، على نأيها وطول مسافتها. ألم تملك روما من
الذهب أكثر مما امتلكت مصر؟ ولكن من ذا الذي
يحترم روما ويحترم نفسه في آن واحد؟ إما أن
ترى الذات التي لا تُرى، والتي من أحشائها
يولد كل شيء، وإما أن تعلق الحكم، حتى يُقيَّض
لك أن ترى بالبصيرة لا بالبصر؛ إذ لا يملك
البصر أن يرى غير القليل. إن مصر قد جاءت من
سريرة الإنسان، ولم تأتِ من الذهب. فمصر
اندلاع فذٌّ لوجدان يرعش في أعماق الروح،
يرعش ويرعش حتى العياء. إذ ما من روح بشري
يثقله عبء الكينونة، عبء الظهور والتواري،
جدل الحياة والموت، كالروح الفرعوني. فههنا
يتجلَّى الإنسانُ مأساةً وفجيعة تحرق الكبد.
وههنا – ولأول مرة في التاريخ البشري – يظهر
المسرح المأسوي قبل سوفوكليس بآلاف السنين.
ولولا هذا الرعش المتوتر، الأمين على
المحتويات الأصلية للوجدان، والمنهمك أيَّما
انهماك بالمصير والزمان والتحاور مع الفراغ،
لما كانت الحضارة البشرية اليوم على ما هي
عليه، ولما عرف التاريخ يوناناً أو روماناً
على الإطلاق. فمِن أغمض راقات النفس، لا من
الذهب والفضة ونمط الإنتاج، يندلق التاريخ
البشري برمَّته وكامل محتوياته. فإما أن يكون
الضمير المصري، ضمير الفرعون العادل والطيب،
وإما أن لا يكون التاريخ البشري على الإطلاق.
ومن المستحيلات أن يكون الجور المتطرف هو
الحضور الأطغى على التاريخ، لأن الناس
يدافعون عن أنفسهم بالانقراض – الشيء الذي
حدث فعلاً في الدولة الرومانية المتطرفة في
جورها، بحيث لم يبقَ من السكان في كثير من
الأقاليم سوى القليل. فالعدالة في أساس
المجتمع الفرعوني اليانع السامق، وإلا لما
كان له أن يكون؛ ولو لم يكن لما كنَّا. والحق
أنه لو لم تكن العدالة هي القيمة المثلى لمصر
الفرعونية لما طعن الطاعنون بعدالة الفرعون،
ولكانوا قد رموه بمثلبة أخرى تتناسب مع
القيمة الأولى لمجتمعه. وما من شيء أدل
على إنسانية الفرعون وخيريَّته من ظاهرة
التزام الفرعون بحدود مصر أو بما يزيد عليها
بقليل (وذلك لأغراض الدفاع المبكر وحسب). فقد
دلَّت الدراسات الحديثة على أن جيش الفرعون
في الدولة الوسطى قد كان يتألف من ستمائة ألف
جندي، لأن التجنيد قد كان إلزامياً، ولأن عدد
السكان قد بلغ اثني عشر مليوناً يومذاك. وهذا
يعني أن مصر قد كانت قادرة على اجتياح جميع
البلدان المجاورة لها، ولا سيما منطقة الهلال
الخصيب. ولكن مصر تعبد السلام والعدل. وذلك ما
يتبيَّن لنا بوضوح من خلال النصوص الفرعونية
المقبوسة في هذا الكتاب الراهن. لا أذكر البتة أن
لفظة "السلام" قد وردت في جمهورية
أفلاطون، أو في كتاب السياسة لأرسطو. أما
انهماك أفلاطون بالعدالة طوال حياته، أما أن
يدور كتاب الجمهورية على العدالة، فتلكم
علامة (ولكنها علامة واحدة وحسب، وقد تكون
أصغر العلائم على الإطلاق) على أن أفلاطون ما
كان إلا تلميذ مصر، تلميذ الفرعون، مؤسِّس
العدالة في التاريخ. فلقد صدق من قال بأن
أفلاطون مصري، سواء أكانت خلايا جسده مصرية
أم يونانية. فما من عاقل إلا ويستطيع أن يدرك،
بالزكانة والألمعية، أن معظم أفكار أفلاطون،
ولا سيما ما كان منها غيبياً وغموضياً
وصوفياً، هي أفكار مصرية قطعاً. غير أن أكثر
الناس لا يعقلون. *** قد يقال بأن سومر
أسبق من مصر، وأن مصر قد تحضَّرت ابتداء من
سومر، إما بالحفز وإما بالاقتباس. والحق أنه
لا بدَّ من التسليم بوجود حضارات سبقت
الحضارة الفرعونية؛ بل لقد ثبت بما لا يقبل
الريب بأن مصر نفسها قد عرفت حضارة قبل
الحضارة الفرعونية، وهي حضارة نقادة الأولى
ونقادة الثانية. على أن هذا ليس الشأن
الأهم؛ إذ ليس الشأن الأهم سوى القفزة
النوعية. ما من حضارة
قديمة على الأرض، في ما يعلم المؤرخون طراً،
لها من العظمة والأبهة الجليلة ما يضاهي
حضارة العصر الهرمي الذي اندلع في أوائل
الألفية الثالثة ق م، اللهم إلا أن تكون قد
ظهرت بعد انهيار العصر الهرمي في القرن
الثالث والعشرين. أما سهل شنعار، أو جنوب
العراق، فلم يتألق ولم يتوهج إلا ابتداءً من
النهضة السومرية الثانية التي أخذت تندلع بعد
سقوط إمبراطورية سرجون الأكدي زهاء القرن
الحادي والعشرين ق م. وفي هذا الطور أخذ الفجر
البابلي يتنفس؛ ولا بدَّ لمثل هذه الوثبة من
أن تكون نتيجة طبيعية لجهود سرجون الكبير. فقد
فتح سرجون آفاقاً جديدة أمام شنعار يوم وصل
إلى البحر المتوسط. إذ لا بدَّ من الإيمان بأن
الانفتاح والوصال ومحاورة الآفاق والأمداء
المتمادية هي الشروط الأصلية لكلِّ حضارة
يزمع إنسانها على أن يفض منطوياته
الجَوَّانية. وفي تقديري أن
حركة سرجون في القرن الرابع والعشرين لم تكن
محض صدفة (وربما لا وجود للصدفة في التاريخ،
بل حتم وحسب). وإذا ما تنبَّه المرء إلى أن مصر
قد كانت في تلك الآونة تتردَّى حتى الدرك
الأسفل من الانحلال عَرَفَ أن سرجون قد راح
يتحرك في خواء تاريخي أو عسكري، فتمكَّن من أن
يغسل سيفه في البحر المتوسط. ولو أن مصر قد
تصدَّت لسرجون وحَبَسَتْه شرق الفرات ومنعته
من الانتشار والتمدد لانعكس الأمر انعكاساً
سلبياً على جنوب العراق، وربما تأخرت نهضة
العراق حتى تحين فرصة مناسبة أخرى. ولئن كنتُ موقناً
بأنه ما من شيء يمكن أن يجيء على حيدة من
السياق الكلِّي (أقلَّه تخوم دائرة حضارية
واحدة كدائرتنا هذه) ومادام غودايا وحمورابي
قد ظهرا كلاهما (ومن قبلهما سرجون الأكدي) بعد
انهيار العصر الهرمي، وبعد تمكن مصر من تعميم
الذهب في حوض المتوسط، لا بدَّ لك من الاعتقاد
بأن حضارة سهل شعنار، في ريعان وَثْبَتها
النوعية، لم تتشكل بمعزل عن مصر وحضارة مصر،
ولكن من دون أن يغفل المرء مسألة الخصوصية
والصباغ الصانع للفردية الحضارية أو الشخصية
المحلية. فلا ريب في أن مصر التي بنت الهرم
وحنطت الجثة منذ مطالع الألفية الثالثة ق م
كانت قد طورت العلمين الطبيعي (وبخاصة
الكيمياء) والرياضي (وبخاصة الهندسة). ولا
يعرف العراق مثل هذا المستوى من النهوض
العلمي قبل ابتداء العصر الهرمي في مصر، أي
زهاء عام 3000 ق م؛ أو قُلْ إن المستندات التي في
حوزة المؤرخين لا تؤكد أي نهوض علمي في العراق
السابق على العصر الهرمي. ومن شأن مثل هذه
الحقيقة أن تعني ما فحواه أن رأي السير غرافتون
إليوت سميث، مؤسِّس المدرسة الانتشارية
الإنكليزية، الذي أُعجِبَ أيما إعجاب
بالحضارة الفرعونية – وهو الرأي الرامي إلى
أن الحضارة البشرية برمَّتها قد انبثقت من
بؤرة واحدة هي مصر – هو رأي سديد إلى أبعد
حدود السداد. وقد شايعه في هذا الرأي عالم
إنكليزي آخر هو السير بيري الذي يُعَدُّ
المكمِّل الفعلي لمذهب سميث. بيد أن هذا
الباحث – أقصد بيري – لا يرى في الحضارة إلا
اقتباسات، مما يعطل الطاقة الابتكارية
والتجديدية والتلوينية للمقتبسين. وهذا شأن
لا يوافق عليه عاقل. * بداهةً، ما كان
في الميسور على الإطلاق أن تنشب الثقافة
البشرية (في طورها الأرقى) من الجسمانية
الإغريقية، من الرياضة والشبق (وهذا مما يشجع
المرء على الذهاب إلى أن فيثاغوراس وأفلاطون
طارئان على اليونان، وإلى أن فلسفتيهما ليستا
من سوس النفس اليونانية). وفي قناعتي الخاصة –
وهي قناعة برهانية أكثر مما هي حدسية – أن
الكثير مما يبدو يونانياً إنما هو مستورد من
مصر، ولكنه كان قد خضع في اليونان لهضم وتمثل
عميقين طوال مئات السنين. وإني لأخصُّ بالذكر
بضعة أشياء لا يساورني أي ريب في أنها مستوردة
من خارج اليونان: 1.
عبادة ديونيسوس
الذي هو أدونيس الجبيلي، من حيث اسمه
وكذلك من حيث مضمونه. وجبيل بلد عريق في
الحضارة، يرقى إلى أواخر العصر الهرمي في مصر.
وفي الأخبار الإغريقية أن المحافظين
اليونانيين قد رفضوا التعبد لديونيسوس لأنه
– صراحةً – إله مستورد. 2.
ديانات
الأسرار، وبخاصة النحلة الأورفية. فهذه – لا
بد – مجلوبة من مصر التي اشتهرت بالطوائف
السرية والعبادات المغلقة منذ الدولة الوسطى
على الأقل. 3.
الفلسفة
الفيثاغورية، فلسفة الفلك والرياضيات. فهذه
مجلوبة من بابل بالدرجة الأولى. (ولاشك عندي
في أن الرياضيات فرعونية الأصل، الشيء الذي
أكَّده أرسطو.) لقد عاش فيثاغوراس – على ما
يروي الرواة اليونانيون – عشرين سنة في بابل
ومصر. وارتاب قوم بهذا الخبر. ولكن كيف العمل
وفلسفة الفيثاغوريين فلسفة فلك ورياضيات؟
وحين تعلم أن فيلون الإسكندري (القرن الأول ق
م) يسمي الفلك "علم الكلدان" (البابليين)،
وحين تعلم أن الحفريات الحديثة قد اكتشفت
الرياضيات البابلية، وثبت أنها قد كانت شديدة
التقدم قبل عصر فيثاغوراس، حينذاك لن يظل
لديك ريب في أن خبر الرواة اليونانيين عن
فيثاغوراس هو خبر صحيح. 4.
فلسفة
أفلاطون المهمومة بجملة من القضايا
الإنسانية الكبرى التي لا أسبقية لها في
التراث اليوناني. فالتراث اليوناني قبل
أفلاطون لا يعرض – البتة على وجه التقريب –
لقضايا السياسة والاجتماع بهذا الزخم الأصلي
الفذ الذي نراه في تراث أفلاطون. ويكاد هذا
الفيلسوف اليوناني، في أحد كتبه – أقصد كتاب الشرائع
– أن يصرح بأنه زار مصر. وتنمُّ كتبُه جملةً
عن معرفة بمصر تشجع المرء على الاعتقاد بأنه
زارها. والأهم من ذلك أن سترابون الذي زار
مصر في القرن الأول ق م قد صرَّح بأن بيت
أفلاطون في مصر ما انفك قائماً حتى عصر
سترابون. 5.
المسرح. من
المؤكد أن مصر قد كانت تملك مسرحاً منذ الدولة
الوسطى، أقلَّه منذ القرن العشرين ق م. ونملك
اليوم مجموعة كبيرة من المسرحيات الفرعونية
المأسوية بكامل نصوصها. وبناءً على المبدأ
الذي لا يمكن لعاقل أن يحيد عنه – أقصد مبدأ
حتمية اشتقاق الثاني من الأول أو اللاحق من
السابق – فلا بدَّ للمسرح الإغريقي من أن
يكون فرعوني الأصول. مصر، إذن، رحم
الحضارة البشرية كلِّها. وما الإغريق إلا بعض
من ورثة الفرعون. وعندي أن الإغريق قد
تخلَّفوا عن مصر في كل شيء (وربما استثنيت
الفلسفة)، ولا سيما في مضمار العلوم الطبيعية
والرياضة، وفي مضمار العمارة والنحت والرسم.
ولعلي أخوِّل نفسي حق الزعم بأن العلم
الفرعوني لم يرثه أحد وراثة تطوير إلا
الأوربيون المحدثون. وبصعوبة يقبل المرء ما
فحواه أن العرب قد طوَّروا العلم الفرعوني
تطويراً نوعياً واثباً، علماً بأن العرب أرقى
من الإغريق في مضمار العلوم (الرياضية
والطبيعية) بما لا يقاس. فالرياضيات
اليونانية ينقصها الصفر، وهو ما لم يكن يعوز
رياضيات العرب؛ والطب العربي قد ظل الطب
السائد في أوروبا حتى مطالع القرن الثامن
عشر؛ والفلك العربي، وريث الفلك البابلي
والفرعوني، أكثر تطوراً بكثير من الفلك
اليوناني؛ والكيمياء العربية قد كانت
أنموذجاً لأوروبا طوال قرونها الوسطى. فالحديث عن "معجزة
إغريقية"، أو عبقرية فذة في العالم
اليوناني، لم يكن إلا نتاجاً لهوس الشوفينية
البائسة وحسب. إن حضارة اليونان – إن كنت في
المتحررين من الببغاوية – لا ترقى البتة إلى
مستوى حضارة الفراعنة وجنوب العراق والهند
والصين والعرب وأوروبا الحديثة. ولئن كانت
متقدمة على هذه الحضارات في إيقاع ثقافي واحد
فهي متخلفة عن أية منها في عشرين مضماراً آخر
على الأقل. * وأكبر فرق بين
مصر واليونان هو العمق. فالفن اليوناني –
وأساسه الشبق وعبادة الجسد – لا يتمتع بالعمق
الذي يتمتع به الفن الفرعوني، على أصالته
وجماليته اليانعة. الفن اليوناني يأتي من
القريب، ككلِّ ما هو يوناني على الإطلاق؛ أما
الفرعوني فجذوره تضرب في النائيات، في العالي
والعميق. فاليونان مسطحة إلى حد ما؛ ولهذا
سرعان ما ظهرت وسرعان ما توارت. أما مصر
فراسخة في الأزلي، في السرمدية؛ إذ هي قد
طُهِيَتْ على نار لينة، ونضجت ببطء وعلى مهل.
ولهذا عاشت حضارة مصر آلاف السنين. أما السبب
فهو المأتى، أقصد نوعية الينبوع الذي ينبثق
منه الشيء أو يجيء. فبينما تتعبد اليونان
للشبق والجسد وتناغم القوام، تماماً كما يفعل
المراهقون والعاديون من المتقدمين في السن،
فإن مصر لم يتعبَّدها إلا الكائن الوحيد الذي
يمكن أن يعد كبيراً في هذا الكون، الكائن الذي
ما من كائن سواه يستطيع أن يتملك الأشياء. إن
مصر ما عبدت شيئاً سوى الموت. ومن تماوجات
الموت في أحلك راقات النفس البشرية تخارجت
الحضارة. (والحقيقة أن السير ولس يكاد يجعل من
الموت محوراً لكتابه هذا.) وشتان بين شبق وموت.
ولهذا فإن اليونان ما قالت إلا الذي ينصاع لفن
القول ويمتثل للطاقة اللغوية، بينما تخصصت
مصر (ومعها بابل أيضاً) بالذي لا ينطق ولا يسكت. فهل نحتت اليونان
إلا الجسد بما هو استحضار شاخص لنزعة
الاشتباق؟ وهل نحتت مصر إلا الغوامض
والراعشات، والأعماق والمستورات، وما لا
يمكن التعبير عنه بغير حصَّة كبيرة من الصمت
تدخل في بنية التعبير نفسه؟ وقد لا أبالغ إذا
ما زعمت بأن الروح البشري إنما أخذ يشيخ يوم
شاخت روح مصر في نهاية الألفية الثانية ق م.
فمع شيخوخة مصر سادت الروح الربوية والنزعة
التجارية، ودُحِرَ الشاعر (أو الفنان) أمام
التاجر، وسقط العالم في قبضة أساطين المال
ودهاقنته، الخبراء بأسراره ومآتيه. وإن لك أن تقارن
تمثال نفرتيتي، الذي قيل فيه إنه أعظم تمثال
نحتتْه البشرية، وبين أيِّ تمثال يوناني
لأفروديت، ولسوف ترى الأول مستسراً مسكوناً
بما لا ينقال، بينما سترى الثاني شديد
الصراحة؛ فهو يعطيك كامل محتوياته ويُسلِمُك
جملة فحاوية لدى النظرة الأولى، بل حتى لدى
النظرة السريعة وحسب. إن أية صورة لأية امرأة
في مجلة الكواكب أو الشبكة أو السينما
والعجائب تكاد تضارع، بل تكاد تبذُّ أي
تمثال يوناني لأية امرأة، أكانت في الآلهة أم
في البشر، وذلك مادام المقصود هو جمال الجسد
بعامة أو الوجه بخاصة. بينما يتعذر عليك أن
تجد صورة يمكنها أن تغنيك عن تمثال نفرتيتي
لأن هذا التمثال يتأسَّس على عنصر الإيحاء
بالدرجة الأولى؛ وهو عنصر تفتقر إليه
التماثيل اليونانية، المستتبة المطمئنة من
جهة، والفقيرة أيَّما فقر إلى العميق والنائي. إن العمل الفني
الأصيل هو ما يأخذ إلى البعيد، هو ما يخطفك
ويرحل بك إلى الأقاصي، مما يؤكد ما فحواه أن
الفن سَفَر أو ترحال. ومثل هذه القدرة هي أكبر
ما يفتقر إليه الفن اليوناني. أما الفن
الفرعوني فسياحة حقاً؛ وهو على الحصر والدقة
سياحة في الذات. إنه يسوِّحك في أقاليمك
الجَوَّانية العميقة والنائية. فهو حقاً فن
الاكتهال، أو الاكتمال، بينما يتعذر على الفن
اليوناني العذب إلا أن يكون فن الشباب الذي لم
يبلغ الاستواء. وعلى ما في الفن اليوناني من
فتون ونضارة واخضلال فإن امرأً ينظر إليه
بوصفه الغاية التي ما بعدها غاية لن يكون إلا
واحداً من المأهولين بالابتسار، أو ممَّن لم
يبلغوا في سيرهم نحو الحقيقة حتى منتصف الدرب
بعد. حين تدرك هذا كله
سوف تدرك الفرق الجوهري بين حضارة الموت
وحضارة الشبق، حضارة الأعماق والمخبوءات
وحضارة السطوح ومشاعر البصر. فالفن اليوناني
النهاري الطابع هو حقاً برسم البصر ومتعة
المقلة وحسب؛ أما الفن الفرعوني (ومعه
البابلي أيضاً) فلا يُعنى بهذه المقلة
الخارجية، لأنه فن غبشي يقع في فسحة اندماج
النور بالظلمة، ويقدم نفسه برسم البصيرة قبل
كل شيء. (وسأعود إلى هذه المسألة مرة ثانية لدى
محاولة الربط بين طبيعة الأسطورة الفرعونية
والفن الفرعوني.) * في
البدء خلق الله السماوات والأرض. وكانت الأرض
خربة وخالية، وعلى وجه الغمر ظلمة، وروح الله
يرف على وجه المياه. وقال الله ليكن نور فكان
نور... هكذا يبدأ سفر
التكوين. وهكذا يبدأ إنجيل
يوحنا: في
البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله،
وكان الكلمة الله. هذا كان في البدء. كل شيء به
كان، وبغيره لم يكن شيء مما كان. فيه كانت
الحياة، والحياة كانت نور الناس، والنور يضيء
في الظلمة، والظلمة لم تدركه. من يعرف النصوص
الفرعونية جيداً لا بدَّ أنه يعلم علم اليقين
أن هذين النصين مأخوذان منها عبر التناسل
الحيِّ والتطور العضوي الأصيل. إذ ما من شيء
خارج السياق؛ وحين تأخذ ما هو ناجز فإنك تكون
قد أخذت ما لم يُنجَز بعد، دريتَ أم لم تَدْرِ.
وما من حلقة جديدة في التاريخ إلا وقد خرجت من
أحشاء حلقة ماضية قديمة. ففي النص الأول
ثمة صورة الماء الذي تتكاثف فوقه الظلمات.
وهذه هي بالضبط صورة بدء الوجود عند
الفراعنة؛ فـ"الماء البدئي"، أو "الهاوية
البدئية"، قد كانت تغطيها أحلك الظلمات.
ونلقى عند السومريين الصورة عينها، صورة أبسو
أو الماء الأول. ولا ندري ما إذا كانت مصر قد
أخذتها من سومر أو العكس. أما النص الثاني
فيشدِّد على فاعلية الكلمة وقدسيتها. ولسوف
يتبدى لك طوال هذا الكتاب كم كانت الكلمة
عظيمة في مصر، وسوف تعرف دورها في الخلاص بعد
الموت (الشيء الذي لا وجود له في حضارة سهل
شنعار)؛ مما يؤكد أن مصر قبل سواها هي التي
أنجبت بالأزمان والأحقاب العالية. وأهم ما في الأمر
أن صورة الإله المجرد المنزَّه المجهول ليست
ابتكاراً توراتياً بأيِّ حال من الأحوال.
وأهم ما ينبغي أن يعرفه المرء بهذا الصدد أن
الديانة الفرعونية قد كانت ديانة توحيدية
وتعددية في آن واحد (وقد حاول أخناتون أن يثبت
الوحدانية فأخفق)، وأن الأسفار الأولى من
التوراة، حتى ما بعد سليمان بكثير، تنم صراحة
عن أن التوراتيين إنما كانوا، تماماً مثل
الفراعنة، توحيديين وتعدديين في آن واحد. وأياً ما كان
الشأن فقد كانت صورة الإله المجرَّد مكتملة
الإنجاز والصقل في النصوص الفرعونية. ولنقرأ
هذه الفقرة المأخوذة من الفصل الأول من هذا
الكتاب الراهن، وهي جزء من ترتيلة خُصِّصَت
لإله النيل: إنه
لا يمكن تمثيله في الحجر، وإنه لا يمكن أن
يُرى في الصور المنحوتة التي يضع عليها الناس
التاجين المتحدين، تاج الجنوب وتاج الشمال،
المزودين بصورة الصل؛ وما من عمل، وما من
قربان، يمكن أن يقرَّب إليه؛ وليس في الميسور
أن نجعله يأتي من مكانه السرِّي. مجهول هو
المحل الذي يحلُّ فيه؛ ويتعذر أن نلقاه في
المزارات المنقَّشة؛ فلا وجود لمسكن يمكنه أن
يحتويه؛ وليس يسعك أن تدرك صورته في قلبك. فهل من ريب بعدُ
في أن مصر هي التي أنجزت صورة الإله المجرد
المنزَّه، السرِّي المجهول، الذي لا يمكن
لصورته أن تُدرَك حتى ولو في الخيال؟ إن النصوص
الفرعونية التي في أيدينا شديدة الصراحة في
حديثها عن إله تصفه بأنه "مطلق" و"سيد
فرد"، بل تقول حتى بأن اسمه لا يُدرَك. وفي
عين شمس، أو التي أسماها الإغريق هليوبوليس،
ذهب المجمع الكهنوتي إلى الاعتقاد بإله "يشرف
على الآلهة وما من إله يشرف عليه"، كما يقول
المؤرخ البريطاني بيري، الشديد الإعجاب
بالحضارة الفرعونية. وأما أخناتون فيسبِّح
قائلاً: "ربٌّ أحدٌ دون شريك، برأتَ الدنيا
وكنت فرداً." إن مما هو ناصع
تمام النصوع أن الديانة التوراتية قد تشكَّلت
في قلب مصر، أو على تخومها. وآثار مصر جلية في
صلب هذه الديانة ومتونها. فعبادة العجل
والبقرة، وامتلاء هيكل سليمان بالأوثان –
كما عرضته التوراة – من أنصع الأدلة على
وثنية التوراتيين الأوائل. والعجل الذي عبدوه
في سيناء هو إيبيس، عجل مصر المشهور؛
والبقرة التي "لا شية فيها" هي ربة
السماء المصرية نوت، وهي التي مثَّلت لها
مصر على هيئة بقرة. أما التقاليد الكهنوتية،
المعروضة بالتفصيل الممل في سفر الخروج،
فلا بدَّ أنها بعض تقاليد الكهنوت الفرعوني؛
وإلا فمن أين لأناس يعيشون حياة البداوة في
سيناء مثل هذه الأبهة والتعقيد الكهنوتيين،
وهما شيئان لا يكونان إلا في حضارة رفيعة،
حضارة المدينة الكبرى، لا حضارة البادية؟ وأما الوصايا
العشر، بلاءاتها المتكررة، فلا تخرج عن كونها
تلخيصاً عامياً ساذجاً للـ"اعتراف السلبي"
الذي يؤدِّيه المتوفى أمام الأرباب يوم
الحساب في الدار الآخرة (وهو ما تجده كاملاً
في هذا الكتاب الراهن). ولست أستغرب أن تكون
هذه الوصايا البسيطة من مقررات المدارس
الابتدائية في مصر، يلقِّنها المعلِّمون
لصغار الأطفال لتكون مبادئ أولانية للحياة
والسلوك. وأغلب الظن أن التوراتيين قد كانوا،
في بادئ أمرهم، من أتباع الإله آمون (أو
"آمين") – فكلمة آمون في العبرانية
تعني "المؤمن"، وفي صلواتهم تراهم
يستعملون كلمة "آمين" التي أُرجِّح أن
الفراعنة قد كانوا يستعملونها في صلواتهم
أيضاً. أما يهوه فشديد الشبه بالآمون من
حيث صفاته الماورائية (وهو يخالفه كثيراً في
صفاته الأخلاقية – ويبدو أن أخلاق شعب من
الشعوب لا يمكن أن تُقتبَس البتة!). تقع فلسطين في
منتصف الدرب بين الفرات والنيل، وتهبُّ عليها
الصبا والدبور، أو الريح الشرقية والريح
الغربية، ريح العراق وريح مصر، بحكم موقعها
على درب القوافل بين المركزين الحضاريين
العظيمين. فليس صدفة أن يزدهر جنوب فلسطين في
العصر التوراتي، لا شمالها. فالجنوب وحده هو
الذي يقع على درب القوافل المسافرة بين مهدي
الحضارة. وهذا يعني أن جميع الحضارات التي
نشأت قديماً في فلسطين قد تأثرت بكلٍّ من
التيارين الشرقي والغربي. ومن الغرائب حقاً
أن التوراتيين لم يشوِّهوا أحداً بقدر ما
شوهوا مصر وبابل. *** يتألف الكتاب
الراهن من خمسة فصول، مدار أوَّلها على الإله
الواحد المجرد، البعيد كلَّ البعد عن المفهوم
الوثني للإله. وابتغاءً لإثبات وحدانية الإله
عند قدماء المصريين فإن المؤلف يعمد إلى
مراكمة النصوص الفرعونية والتعليق عليها
وتمحيصها بذكاء مرموق، بحيث لا يترك مجالاً
للريب في أن تيار التوحيد قد كان حاضراً كل
الحضور في الديانة الفرعونية منذ أقدم
أزمانها. ومن أهم ما يبرهن عليه المؤلف أن
الآلهة طراً ما كانوا في مصر الفرعونية إلا
وجوهاً متباينة، وخصائص متنوعة، وفاعليات
متعددة، للإله الواحد المنزَّه المجرد. وهو
بذلك إنما يكون قد برهن على أن مصر هي التي
أسَّست فكرة وحدة الوجود – وإن كان المؤلف
نفسه ينكر هذا الأمر. ويدور الفصل
الثاني على أوزيريس بوصفه إله البعث
والقيامة. ويسرد حكاية هذا الإله المأسوي
مأخوذة عن النص الشهير الذي تركه المؤرخ
اليوناني بلوتارخوس. ويعرض بالتفصيل
لآلام أوزيريس، وجهود إيزيس، ونواحها على
زوجها القتيل، وتمكُّنها من بعثه بواسطة
الكلمات السرية التي زوَّدها بها الإله تحوت،
وكذلك للصراع الذي دار بين حوريس المنتقم
لأبيه أوزيريس، وبين عمه سِتْ، إله الشر
وقاتل أوزيريس. وبانتصار حوريس على سِتْ، يجد
المرء الروح المصرية وهي تتبدى متفائلة
بانتصار الخير على الشر، وتؤمن بأن الحياة
شيء مقدس لا يجوز للشرِّ أن يعبث به. أما الفصل الثالث
فاستعراض تفصيلي لآلهة مصر، أو لآلهتها
الكبار، وتعريف بوظائف كلٍّ منهم وفاعلياته،
ولا سيما الإله رع الذي هو الوجه الظاهر
للإله، وكذلك للإله آمون الذي هو وجهه الباطن
المستور؛ إذ الآمون تعني "المخبوء"،
والمخبوء هو السري، وهو "الآمِن" في
الوقت نفسه. ومع أن حركة أخناتون (= المخْلِص
لأتون) من شأنها أن تخدم الفكرة المركزية
للمؤلف – أقصد فكرة التوحيد – فإن هذا الفصل
يمر بهذه الحركة مرور الكرام. وللحق أن مثل
هذا الحال نقصٌ في كتاب مدارُه على الديانة
الفرعونية. ويتركز الفصل
الرابع على يوم الحساب. وأهم ما فيه الوصف
المستفيض للميزان، رمز العدالة الدقيقة،
وأداة صيانة الأفعال والأقوال وحفظها من
الضياع. إن على الفؤاد البشري أن يتوازن بدقة
مع ريشة ماعت، ريشة ربة الحق والعدل
والصدق والحكمة، وإلا فإن عم–ميت، أو
ملتهم الموتى، سوف ينقضُّ على ذلك الفؤاد
الخاسر فيلتهمه، فيكون الدمار مصير صاحبه إلى
الأبد. وما هذا الوحش إلا رمزاً للقوة التي
تنقِّي وتصفِّي، القوة التي تنفي كل خبيث لكي
لا يظل إلا كل طيب. ههنا، إذن، في
قاعة الربة ماعت يحق الحق ويزهق الباطل، مرة
واحدة وإلى الأبد. فمن خلال هذه الربة وقاعتها
ذات الميزان راحت مصر ترسِّخ الضمير البشري
الذي من دونه لن تكون هنالك بشرية على الأرض،
بل وحشية مطلقة. ومن خلال هذه الربة، أو
الصورة المجسمة للضمير، راحت مصر تدشِّن كل
أخلاق على الإطلاق، بل قُلْ راحت تصوغ
نويَّات الأبدية الإنسانية؛ إذ من دون العدل
والحق سوف يتعذر على المشروع البشري أن
يتأسَّس أو يبدأ، ناهيك بأن يستمر ويدوم.
فالشيء لا يكون إلا بإيجابياته، أو حتى
بالسمات الإيجابية لسُلُوبه الخالصة. ومن شأن الفصل
الأخير أن يتواءم مع طبيعة المغرمين بالأخيلة
الغريبة والشاعرية الرامزة، وذلك بنصوصه
الفرعونية الجميلة الحية التي ما انفكت تصلح
للذائقة والدراسة الذوقية الجمالية حتى يوم
الناس هذا. ومدار هذا الفصل، في المقام الأول،
على شيئين: 1.
وصف الجنة
الفرعونية (ولكنه يكاد أن يسكت عن الجحيم
الفرعوني، ولو أنه يؤشر إليه من خلال بحيرات
النار). 2.
الرحلة
التي يجتازها الميت بعدما ينجح في الحساب على
الميزان. وهي للحق رحلة طويلة شاقة، بل مريرة؛
غير أن أهم ما فيها أنها تؤشر إلى السفر في قاع
النفس البشرية. فالحقيقة أنك إن
لم تفهم التراث الفرعوني كله فهماً رمزياً
فإنك لن تفهمه على الإطلاق. فالرحلة بعد الموت
ليست شيئاً سوى ارتعاشات النفس المحزونة أمام
المصير القاهر الذي لا رادَّ لقضائه على
الإطلاق. إنها فعلاً رُهاب الما بعد، ولكنها
في الوقت نفسه انتصار الروح المظفرة على هذا
الرُّهاب الخانق. وأخوف ما يخاف منه المتوفى
الجوع الطويل الأمد في رحلة طويلة الأمد؛
ولهذا تراه يتوسل إلى الآلهة كي يتداركوه،
فلا يضطر إلى تناول القذر. بيد أن المسافر
المنهك يبلغ إلى بغيته الختامية في نهاية
المآل، فينجح في أن يحوِّل كلَّ عضو من أعضائه
إلى إله، أو في أن يصير كل عضو من أعضائه عضواً
في أحد الآلهة. وهكذا تنتهي النفس الظافرة إلى
الانصهار في السرمدية. وبذلك تؤشر العقيدة
الفرعونية إلى النيرفانا الهندية وتوشك
أن تقول بها صراحة وجهراً. * أما عن مؤلف
الكتاب – السير ولس بدج – فليس لدينا سوى
القليل من المعلومات عنه. فهو إنكليزي من
مرحلة ما قبل الحرب العالمية الأولى، أي
مرحلة ازدهار علم المصريات والحفريات
الفرعونية. وهو متخصص في هذا العلم، وله فيه
كثير من الدراسات، أهمها، فضلاً عن هذا
الكتاب، السحر المصري واللغة المصرية
وترجمة محققة لـكتاب الموتى إلى اللغة
الإنكليزية. وللحق أن المؤلف
قد أحسن صنعاً في هذا الكتيب الراهن، حين اتخذ
من السماح للنصوص الفرعونية بأن تتكلَّم
مباشرة، بدلاً من التكلم بالنيابة عنها، خطةً
له لا يكاد يحيد عنها طوال البحث كله. ولئن
كانت هذه الخطة سمته الأولى فإن سمته الثانية
هي النزعة التطورية الصافية التي ترى الشيء
وهو يتلون بألوان الزمان وأصباغه ويتحول
بتحولاته وأطواره. فهو حقاً يبذل جهداً
مرموقاً وملموساً كي يربط اللاحق بالسابق،
وكي يرى الجديد وهو ينبثق من التليد انبثاقاً
عضوياً، بحيث لا يكون هنالك إلا وصال وتناسل.
أما السمة الثانية لعقل المؤلف، أو لكتابه،
فهي الدقة في تمحيص المعلومات أو المعطيات،
والشمول في الإطلال على جملة الرقعة، والفطنة
إلى العلائق بين المتنائيات، ولكن فقط ضمن
إطار المادة الفرعونية، وكذلك أثر هذه المادة
على الأديان السماوية وحسب. فحبذا لو تصدى
المؤلف للكشف عن أية علاقة ممكنة بين التراث
الفرعوني وتراث العراق الجنوبي، وكذلك بينه
وبين التراث اليوناني. فلا ريب عندي في
أن الديانة اليونانية مصرية الأصول، وبابلية
وفينيقية، مادام هيرودوت نفسه يصرح في
الكتاب الثاني من تواريخه بأن ديونيسوس
قد جيء به إلى اليونان من مصر، ومادام في
المنطقي أن كل حلقة تاريخية جديدة إنما جاءت
من حلقة تاريخية تليدة، بحكم النمو العضوي
للأشياء الحية طراً، بما في ذلك التاريخ نفسه.
فكما يأتي الشباب من الطفولة، والكهولة من
الشباب، فإن اليونان قد خرجت من مصر والهلال
الخصيب حتماً ودون أدنى ريب. وهذا شأن يغفله
المؤلف مطلق الإغفال. ولعله جاهل بالتراث
اليوناني والعراقي، وعند ذاك يكون معذوراً.
ولكن هؤلاء الأوروبيين يظلون متهمين
بالشوفينية عندي، إلا أقلهم؛ فهم كثيراً ما
يتنكرون للحقيقة، أو حتى يزوِّرونها (كما فعل
بيرنيت، مؤرخ الفلسفة، في كتابه فجر
الفلسفة)، حين تُطامِن من كبريائهم ساعة
تقنعهم بأن أوروبا ليست ينبوع الأشياء، بل
هي، قديماً وحديثاً، مجرد برهة طارئة على
الوجود البشري الرفيع. * بيد أن النصوص
الدينية التي يقبسها الكتاب، لكي تتكلم
بالأصالة عن نفسها، غنية بالثروات الشعرية
والخيالية إلى حدٍّ مدهش. وهذا شأن يغفله
الكتاب إغفالاً تاماً تقريباً. وهو لا يتعرض
للكثير من عناصر هذه النصوص، ربما لأنها لا
تخدم أغراضه التي لا يحيد عنها (وأهمها
البرهنة على وحدانية الله في الديانة
الفرعونية، ومعرفة مصير المتوفى بعد الموت).
ولا بأس في أن أختم هذه المقدمة بالتعرض
الوجيز لبعض هذه العناصر، أو لأهمِّها
وأجلِّها شأناً، لأن في ميسور الانتباه إلى
هذه العناصر الرفيعة أن يرسخ معرفتنا بالروح
الفرعوني الأصيل. إن نفساً يتعبدها
الموت والمصير بعد الموت لهي بالضرورة نفس
شاعرية ذات أنفاس مأسوية؛ ورعشها – حكماً –
محزون مألوم، تتملَّكه قوى الغموض ومهابة
الخفي. لعل الروح
الشعري، إذن، أن يكون من أبدى سمات هذه النصوص.
وهو في الحق روح ترميزي ينبثُّ فيها بحضور
غزير لا يخلو من فتون ولا من أبهة، بحيث يمكن
القول بأن الترميز هو الوظيفة الأولى للعقل
الفرعوني، على عكس يونان المفتونة بالوظيفة
الشبقية للجسم البشري. فالنص ههنا مزود بطاقة
تخييلية تكاد تضاهي أرقى الطاقات التخييلية
في أيِّ شعر حديث، مما يدفع إلى الاعتقاد بأن
الباطنية الفرعونية لم تكتفِ بترويض الحجر من
أجل التعبير عن محتوياتها الغنية والعميقة،
بل إنها قد طوعت الكلم أيضاً واتخذت منه
ملهجاً أصلياً به يلهج الباطن فيتكشف. فللحق
أن هذه النصوص، بما تتمتع به من قدرة على
التخييل، ومن طاقة على ابتكار المناخ
التغريبي السياحي، إنما هي تشبه الشعر الحديث
إلى حدٍّ بعيد؛ بل إنها تحتوي على عناصر
الحداثة كلِّها، ولا سيما التغريب،
والاقتصاد اللفظي، والإيحاء، والتخييل،
والتصوير الرامز، إلخ، بحيث لا يصح القول بأن
الحداثة من مبتكرات العصور الحديثة على
الإطلاق. فلا مراء عندي في أن جوهر الحداثة (الذي
هو، بإيجاز، تغريب اللغة عن مألوف عادتها، أو
قل تسويحها) إنما أنجزتْه مصر يوم أنجزت
الأهرام. بل لا مبالغة في أن يقال بأنه ما عاد
ثمة شيء جديد كل الجدة بعد بناء الأهرام، هذه
الرموز الفذة لفحاوٍ جمَّة قد لا ترضخ للسبر
المُمَنْهَج، بل ربما تعنو للتفرس والتوسُّم
وحسب. فالأهرام عندي تفصل المشروع البشري إلى
فصلين كبيرين: ما قبلها وما بعدها. ومع
الأهرام وحدها تبدأ الحضارة الرفيعة. وكثيراً ما شعرت،
لدى قراءة هذه النصوص، بأنها تشبه شعر ت. س.
إليوت، بل هي تشبهه إلى حدٍّ ملحوظ. وفي
تقديري أن إليوت قرأ الكثير من النصوص
الدينية الفرعونية. فمناخ "اليباب" لا
يبعد كثيراً عن مناخ هذه النصوص الرفيعة
الصوغ. ومن شأن مثل هذه الملاحظة أن تؤكد ما
فحواه أن "الحداثة" ليست حديثة على
الإطلاق! * ومما لا بدَّ منه
أن يرى المرء تلك الصبغة الواحدة التي تلون
كلاً من النصوص والفنون الفرعونية بلون واحد
أصلي (وهذا شأن لا يتعرض له الكاتب على
الإطلاق). وإذا ما علم المرء أن السمة
الأولانية للفن الفرعوني هي التخبئة، أو
تستير المضمون، بحيث يتوافق مع النفس
المستسرة والآمون الخفي؛ إذ إن دائرة الفرعون
هي دائرة الاستتار والكتمان والتنقيب في باطن
الذات وفي ما وراء المرئيات. وإذا ما أدرك أن
العمل الفني الفرعوني، بنزوعه إلى التكتم على
منطوياته وفحاويه، لا يعطيك ذاته دفعة واحدة،
شأنه في ذلك شأن كل ناضج أصيل، بل هو دوماً
يصون ويستر معناه الأسِّي، ويُغْشِي بعضاً من
مدخرات هذا المعنى بالتلامح والإلماع فحسب،
بحيث لا تراه يقدم شيئاً إلا برسم البصيرة
وحدها، عند ذاك فإنه سوف يعرف أن عناصر
الحداثة برمَّتها هي إنجاز فرعوني حكماً، لأن
الحداثة لا تطمح في البلوغ إلى أي مبلغ يقع
وراء هذا الأفق الوسيم. إن العمل الفني
الفرعوني لا يعني للبصر إلا القليل، وذلك على
نقيض العمل الفني اليوناني تماماً. فالناظر
إلى الهرم يحسبه مجرد كومة من الحجارة، اللهم
إلا إذا أُوتِي الفطنة الباطنية والقدرة على
التفرس. وما لم يؤتَ المرء مثل هذه الفطنة
وهذه القدرة فإن تمثال أفروديت سوف يتبدَّى
له أكثر قدرة على الجذب من تمثال نفرتيتي.
ههنا، كل شيء لا برسم النخبة وإنما برسم خلاصة
النخبة وحدها، وقفٌ على الأكابر من دون الناس.
إن مصر، إذن، بلد الأرستقراطية بامتياز، ولا
سيما أرستقراطية العالم الداخلي. فلا أحسب أن
في الأرض كلِّها دائرة حضارية يمعن أكابرُها
في احترام أنفسهم وميز شخصياتهم عمَّن سواهم
كما فعل أكابر هذه الدائرة الصحراوية على
مدار التاريخ. ولهذا صار رجل النخبة عندنا
ضرباً من ضروب السر، فتواترت في أوساط
الصوفية عبارة "قَدَّسَ الله سره". ولئن أمعن المرء
في تأمله للعمل الفني الفرعوني (ولاسيما
للهرم والكرنك) وجده مصوغاً بحيث يمثل للباطن
ما يمثله الكون للعقل المتذهِّن. فكما لا يدرك
العقلُ هذا الكون إلا على مستويات وعلى دفعات
– أي أن العقل يتعمق الكون على الدوام من
التعمُّل فيه واستخلاص حقائقه بالتدريج –
فإن الباطن، أو قوة التوسُّم الباطنية،
يستوحي العمل الفني الفرعوني استيحاء. وهو
للحق عمل يتأسَّس أصلاً على هذه المزية،
بمعنى أنه لا يستمد قيمته إلا من حيث هو قدرة
على الإيحاء، لا على الإفصاح. فهو لا يعطيك من
ذاته إلا بقدر ما لديك من استعداد باطني
للأخذ، تماماً مثلما يأخذ ذهنك من حقائق
الكون ما هو أهل له وحسب؛ وهذا يعني أنه لا
يسمح لأحد بأن يأخذ أكثر من حقه. وعند ذاك
تبتسم الربة ماعت لتنمَّ عن ابتهاجها
بالتطبيق الطبيعي للعدل. وهذا يعني أن العمل
الفني الفرعوني ديموقراطي بقدر ما هو
أرستقراطي؛ أو قُلْ إنه لا يقيم أيما وزن لغير
معناك الذي هو أنت بالضبط. فلئن أحببت أن تعرف
مدى نضجك وماهية باطنك فلتجهد نفسك في استبار
ماهية الهرم وهتك أسراره المستورية الغنية
والعميقة. وعلى قدر ما تستطيع أن تهتك من
مكنونات وفحاوٍ مستبطنة تكون طاقتك
الاختراقية. * وأياً ما كان
جوهر الشأن، حبذا لو تذكَّر المرء، لدى
التعامل مع منجزات الدائرة الفرعونية، أن هذه
الدائرة هي المجال التاريخي الوحيد الذي
استطاع فيه الوحي أن يقود الناس طوال آلاف
السنين. فكل شيء ههنا قد كان مربوطاً بالوحي،
ومصوغاً بحيث يكون الوحي جاسداً، وبحيث يؤدي
وظيفة ما من وظائف الوحي. وهذا ما عجزت
اليونان عن استيعائه واقتباسه. ثمة حقاً، في
كل حضارة، برهة جوهرية لا تقبل الاقتباس ولا
تذعن للتمثل من قبل الأغيار. إن ما نلفاه في
المنجزات الفنية الفرعونية من تمجيد
للمستوري والرامز نلفاه بأُمِّ عينه في
النصوص الدينية والأدبية لمصر القديمة. وهكذا
يمكن للمرء أن يلاحظ ما فحواه أن النصوص التي
يقبسها الكتاب الراهن تكثر من استعمال كلمة
"المخبوء" أو ما يشير إلى اللامرئي
والسري والمجهول. وهي تكثر كذلك من التطرق إلى
العميق والظلام والهاوية والإعصار وشتى
الرموز الدالة على الغبش، أو على حدس الما
بعد، أو استشعار المغيبات؛ إذ الكلف بالغياب
والغائب، المبهج أو الراعب، هو جوهر النزعة
المستورية، أو الفاعلية الرمزية القادرة على
تغييب الفحاوى والمنطويات. وللحق أنه ما من
حضارة اقتنت من حدس الغياب أو الاستسرار كما
فعلت مصر الفرعونية. وبهذا الحدس، على وجه
الحصر، استطاعت دائرة الفرعون أن تطور الخيال
البشري أيما تطوير. وهذا ما يراه المرء ماثلاً
في لغة النصوص المقبوسة في هذا الكتاب. (وللحق
أن يونان لا تفتقر إلى شيء قدر افتقارها إلى
حدس الغياب، إلى هذا الوحي الراعش الحيِّ
والصانع لكل مزية في أرفع منتجات الإنسان.)
وفي يقيني أن الحضارات البشرية طراً، حتى
الحضارات البدائية منها، قد حاورت رمزية
الفرعون وتقديسه للوحي؛ وبهذا الحوار تطورت
الأدبية في العالم، ولا سيما في حوض البحر
المتوسط. فبالحوار يصنع الإنسان عالمه،
وبالتثاقف يتطور الروح. ولا مراء في أن
رعشة الموت والحياة بعد الموت هي الينبوع
الأغزر الذي انبثقت منه هذه اللغة الموحية
الرامزة، بل هذه الفاعليات الباطنية كلها.
فما من شيء قد طور الخيال والأسلوب والفن في
مصر بقدر ما طوَّرته شهوةُ الحياة بعد الموت.
بل كثيراً ما يبدو لي أن تاريخ الحضارة
البشرية ليس شيئاً آخر سوى تاريخ التغلب على
رهاب الموت والتناهي، وأن تدجين الموت هو
الصانع الأول لإنسان التاريخ. ومن الواضح في
النصوص التي بين أيدينا أن المصير بعد الموت
قد تطور بتطور الخيال البشري؛ وهذه هي
العلاقة الجدلية بين الصانع والمصنوع، بين
الموت والخيال الذي هو من نتاج رعشة الموت.
فالأرجح أن العقيدة الأولى في مصر، ربما في
عصر نقادة، قد كانت تعلِّم ما فحواه أن
الإنسان بعد الموت سينال حقلاً في إقليم ما
يشبه مصر ويخترقه نهرٌ يشبه النيل. وهذه – لا
ريب – عقيدة مجتمع زراعي بسيط لم يكن يعرف
الدولة ولا الكتابة. أما بعد بناء الأهرام
وتشكل الفرق السرية النخبوية فقد اختلف طموح
الإنسان الفرعوني، لأن خياله قد صار أنضج
بكثير مما كان عليه قبل الدولة والكتابة
والذهب. فالنصوص التي بين أيدينا في هذا
الكتاب الراهن صريحة في تحديدها للمصير على
أنحاء متباينة، ولكنها جميعاً تنم عن خيال
متطور رفيع: -
سوف يكون المصير
خلوداً سرمدياً على هيئة إله. -
سوف
يستحيل كل عضو من أعضاء المرء إلى ربٍّ قائم
بذاته. -
سوف
يصير كل عضو من أعضاء المرء عضواً في جسد إله
معين. -
سوف يكون للمرء
موضع في زورق رع، بحيث يبحر على الدوام في
الفضاء اللامتناهي. والأرجح أن هذه
العقائد قد تشكلت بعد بناء الأهرام؛ والأرجح
أنها عقائد المجموعات السرية. ولعل العقيدة
الأولى – عقيدة الفلاح العامل في حقل يشبه
حقله في الدنيا – قد استمرت حتى عهود
الانحلال. بيد أن أهم ما في الأمر هو الدور
الجبار الذي لعبته هذه الأخيولات المصقولة،
وأمثالها من الرعوش النامَّة عن المصير بعد
الموت وهمومه الخانقة، في تأسيس الحضارة
الفرعونية – وهي الحضارة التي أطلعت كل ما هو
رفيع في التاريخ البشري، وذلك من خلال الحفز
والحوار والاقتباس. ما من شيء عظيم في
حياة البشر طوال القرون الخمسين الأخيرة إلا
ويمت بصلة نسب إلى الهرم، إلى ضريح الفرعون
ابن الشمس. وهذا يعني أن الفرعون ما انفك حياً
بالفعل، وأنه قد انتصر على الموت حقاً، وأنجز
رغبته في البقاء، وراح من رمسه ينجب بالحياة. ***
*** *** مخيم
اليرموك، الأول من نوار 1985 تنضيد:
نبيل سلامة *
السير وَلِس بَدْج، الديانة الفرعونية:
أفكار المصريين القدماء عن الحياة الأخرى،
بترجمة وتقديم يوسف سامي اليوسف، منارات،
عمَّان.
|
|
|