طب المستقبل

مبادئ الطب الأنثروبوصوفي

 

سمير كوسا

 

فالتر هولتسابفل طبيب معروف بالتزامه الجاد في مجالات مختلفة من أجل توسيع فنون الشفاء باعتماد أنثروبوصوفيا رودلف شتاينر. وقد كرَّس 13 عاماً من حياته لإدارة القسم الطبي في الغوتيانوم Gœtheanum في دورناخ (وهو مركز دولي بُنِي بحسب مبادئ العمارة الأنثروبوصوفية، مخصَّص لدراسة فكر شتاينر وتطبيقاته في شتى مجالات النشاط الإنساني). وقد بدأ حياته الطبية في أولم، على نهر الدانوب، ممارساً الطبابة العامة. وقد قاده اهتمامُه الخاص بالطفل وباضطرابات النمو عنده إلى سويسرا، حيث عمل طبيباً في عدة معاهد طبية تربوية. وكتاباتُه، من مقالات في مجلات متخصصة وكتب، تعكس بصدق مساره الشخصي، الفكري والعملي.

 

الغوتيانوم، دورناخ (سويسرا)

يعرض د. هولتسابفل في كتابه الصغير* الآراء الطبية للمفكر الكبير رودلف شتاينر Rudolf Steiner (1861-1925) الذي كان، دون أيِّ شك، من كبار عباقرة القرن الماضي – وإن كان الكثير من آرائه يثير الجدل، وأحياناً الرفض. فقد استخدم شتاينر طريقتين في دراسة الواقع: أولهما عقلي صرف، من خلال تحليل دقيق وموضوعي؛ أما الثاني فهو حدسي، قد يرمي إلى معاينة عوالم روحية لا تُرى بالعين البشرية العادية (وهذا ما أثار الجدل). وبواسطة هاتين الطريقتين صاغ شتاينر رؤية خاصة في الطبيعة البشرية والكونية، أطلق عليها اسم الأنثروبوصوفيا Anthroposophie (أو الحكمة الإنسانية). وعن هذه الرؤية الخاصة تفرعت تطبيقات لا حصر لها في شتى ميادين النشاط الإنساني، منها الفلسفة، والطب، والتربية، والزراعة، والرسم، والنحت، والموسيقى، والرقص، والمسرح، إلخ.

 

يقول هولتسابفل إن الطب الأنثروبوصوفي يوسِّع مفهومَيْ العلاج والشفاء في الطب الحالي، بدون أن يلغي هذا الأخير. تشهد طبابة اليوم تزايداً في عدد الأمراض والمرضى؛ والعديد من هذه الأمراض ينتج عن الأعراض الثانوية الناجمة عن بعض الأدوية التي لاقت نجاحاً في معالجة الأمراض؛ وينتج هذا بدوره، في رأي الأنثروبوصوفيا، عن فهم خاطئ لطبيعة المرض الحقيقي. فالإنسان اليوم مقسوم إلى "حدَّين" – جسمي ونفسي – يُعالِج كلاً منهما أطباءٌ مختلفون؛ في حين أن الإنسان وحدة لا تتجزأ. فالخجل، مثلاً، يولد شحوباً أو رجفة، وتغيُّر معدل السكر في الدم يؤثر في شخصية المرء.

لذا لا بدَّ من أنثروبولوجيا كلِّية تدرس الإنسان ككيان واحد. وبذلك ينظر شتاينر إلى أن الإنسان وحدة في أربعة مستويات: المستوى الأول هو الجسم الفيزيقي المعروف. ولكي نفهم ما يقصده شتاينر بالمستويات الثلاثة الأخرى نقدم مثال شخصٍ زُرِعَ له قلب جديد. ففي ظاهرة رفض الجسم لهذا العضو نكتشف نظاماً دينامياً يتكفَّل بالسلوك الكلِّي للعضوية الحية؛ فأي تغيير في جزء يؤثر في بقية الأجزاء. ويسمي شتاينر هذه المجموعة الدينامية المسؤولة عن الظواهر الحيوية بـ"الجسم الأثيري".

وإذا أصاب قلبَ المريض الجديد ما أصاب سابقه نكتشف وراء النظام الدينامي السابق مستوى جديداً يسميه شتاينر بـ"الجسم النجمي". ويمكن أن نرى عمل هذا المستوى من خلال الدوافع والرغبات والأماني والانفعالات. وعن هذا المستوى نتج الطب المعروف بالطب النفسجسمي Psychosomatics.

أخيراً، إذا أدى زرع القلب إلى تغيُّر في شخصية المريض نكون قد لمسنا مستوى آخر هو "الأنا" Ego – وهو مركز الوعي الذاتي الذي يهب كلاً منا أصالته الفردية.

وهذه المستويات الأربعة تشكِّل وحدة متداخلة ومترابطة. لذا يجب على كل طبٍّ أن يرى هذه المستويات بكلِّيتها، وأن يعالج وفق هذه النظرة الكلِّية، لا أن يهتم بمستوى واحد، ناسياً أثر البقية، كما هي الحال في الطبابة الحالية.

ولكي تتعاون هذه المستويات الأربعة لا بدَّ من وجود عملية استقطاب بين العناصر المولِّدة للوعي والعناصر النشيطة في الجسم. فلا يمكن للذات والنفس أن تشارك – بحسب شتاينر – في الشخصية إذا لم يُفسَح لها مجال في التنظيم الجسمي. لذا لا بدَّ أن تقابل عمليةَ التركيب الجسمية عمليةُ تفكيك تسمح للذات بالتدخل.

وعلى هذا الأساس، يمكننا فهم المرض والصحة والشفاء. فيصير المرض عنصراً مهماً في الصحة الكلِّية للإنسان، ولا يأتي فقط من الخارج. وكذلك هي الحال مع عملية الشفاء: فهي لا تأتي فقط من تدخل خارجي منفصل عن الإنسان، بل لا بدَّ لكيان الإنسان من أن يساهم فيها.

ويتيح المرض للإنسان أن يعي مناطق ليست لديه أية فكرة عنها في الحالة العادية. فمثلاً، عند إصابتنا بآلام شديدة في المعدة نعي منطقة من جسمنا تفلت عملياتُها من ملاحظتنا عادة؛ وقد تكون هذه الآلام ناجمة عن قرحة، وهي عملية تفكك تؤدي إلى ضياع في مادة جدار المعدة. وهكذا نرى، مرة أخرى، العلاقة بين الوعي وظواهر التفكك – المَرَضية في حالتنا هذه.

أخيراً نجد عدداً لا يستهان به من العيادات التي تُطبِّق مبادئ الأنثروبوصوفيا الطبية. ونجد أيضاً مخابر صيدلانية تصنع أدوية وتخترع أخرى، وفقاً لهذه المبادئ. ونخص بالذكر شركتي فيليدا Weleda ووالا Wala الشهيرتين.

ولا شك في أن طب شتاينر يحوي كثيراً من الأفكار الصحية التي لا بدَّ للطب التقليدي من أن يرجع إليها في النهاية. وقد نجح هذا الكتاب بإعطاء عرض موجز ومبسط للطب الأنثروبوصوفي في علاقته مع الطب التقليدي.

*** *** ***


* Walter Holtzapfel, La médecine de l’avenir, Triades.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود