مصباح كفيف

نافذة المخيِّلة على عالم افتراضيٍّ

 

صباح زوين

 

تواصل سوزان عليوان تجربتها الشعرية الدائمة الاستقلالية والخصوصية وتحاول، قدر المستطاع، الحفاظ على اللغة والأجواء التي رافقتْها منذ مجموعتها الأولى – وهي لغة شفافة إنما غير نائية في الوقت عينه عن القول المتصل مباشرة بأحدث التكنولوجيات، أي الكومبيوتر. تمزج بين رومنطيقية الكلام وفجاجة النمط الآلي–الإلكتروني، معبِّرة بذلك عن روح عصرها، أو عن نمط الحياة العصرية التي نحياها يومياً.

 

إنه أسلوب عليوان في التعبير عما تعيشه. حتى في الصفحة الأولى، حيث اسم المؤلف وعنوان الكتاب، تلجأ إلى النمط الكومبيوتري، وتحديداً نمط البريد الإلكتروني، فنقرأ: "اسم المستخدم: سوزان عليوان"، "كلمة السر: مصباح كفيف"* – وهو ما نقرأه على شاشة الاتصالات الإلكترونية. ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل تستهل فصول كتابها بالسهم الصغير والساعة الرملية، مُرفِقة الأول بسؤال، والثانية بجواب، تماماً كما يحصل في تلك اللعبة الافتراضية الإلكترونية؛ واللافت في هذه اللعبة اقتباس الشاعرة اللغةَ الكومبيوترية نفسها تقريباً، كأن تقول مثلاً: "– من أنت؟ / * مفتاحٌ فقدَ بابَه.ُ"؛ "– ما الذي يعنيهِ / أن نتحادثَ / في خواءٍ كهذا؟ / * أن نُعيدَ إلى البياضِ صوتَه، / أن نعود إلينا."؛ إلخ.

تروم الشاعرة، عبر هذا الأسلوب، كسر حدة الألم، بل السيطرة عليه، جاعلةً منه مادة افتراضية، بل مادة غير حنينية وغير عاطفية، أو – اختصاراً – غير بشرية.

وما أشدَّ تأثير العالم الافتراضي على حياتنا وعقولنا وتورُّطنا فيه، حتى بات جزءاً من لغتنا في بعض الأحيان. تقول عليوان: "أفترضُ فضاءً وأدخلُ / أدخلُ احتمالَ المكان / المكان الذي لا يتَّسعُ لشجرةٍ / لطائرٍ / لراحةِ يد." كيف لا تتساءل حول معنى المكان وقد أضحى صورة على الشاشة، نراها ولا نقبض عليها. إنها صورة المكان، لا المكان بذاته، مما يجعله عاجزاً عن احتواء ما أتت عليوان على ذكره. يُحزِنُها ضياعُ الكثير من أشياء الدنيا التي نشأنا وسطها وألِفْناها، زوالُها كي تصب في اللا–مكان. لذا نراها تكتب في محطة أخرى: "رغم المفاتيح المتناسخة / لا تتلامسُ أصابعُنا / والعيونُ من زجاجٍ / لا ترى، / فقط تحلمُ." وأيضاً: "الأرضُ بلغَتْ هاويتَها. / ما عادتْ أمامَنا طُرُقٌ، / والوقتُ الذي بحجمِ دمعةٍ / أقل ممَّا نحتاجُ / كي نموتَ / مُبتسمين". الإشارة التي ترافق هذه القصيدة الثانية هي الساعة الرملية. هنا يختفي السهم كعلاقة اختتام، وقد بلغنا الصفحة الأخيرة. إذن، بحسب الصورة، توقفت الساعة كأنما "الأرض بلغت هاويتها"!

لا شك في أن إشكالية المكان–الزمان تشغل سوزان عليوان، على طريقتها، مستقلة، في الوقت عينه، مدركة فعل الكتابة. وبالعودة إلى القصيدة الأولى، نقع على مفاتيح المكان، ونرى كم أن الصدمة عميقة، تلامس الهذيان لفقدان هذا المكان واستبدال عملية التناسخ والافتراض والعيون الزجاجية به.

 

هنا تلحظ الشاعرة، في مرارة، أننا بتنا في عالم الوهم، حتى توهَّمْنا أننا نرى. ويظلُّ هذا العالم الجنوني كثيف الحضور: "لنفترضْ زمناً لا يهربُ من الزمنِ / مكاناً لا يخاف من المكانِ / بشراً جميلين / طينُهم ماءُ عيني / مذروفاً / في غُبارِ ضحكاتِك. / لنفترضْ حياةً أخرى / خارجَ الجسدِ / وأبعدَ من الروح / ولنفترضْ / أنَّها نافذةٌ ما". جليٌّ تأثيرُ العالم الافتراضي على الشاعرة؛ ولغتُها لا تنشد خلاصاً من هذه المفردات المتصلة به. تستعمل مفردة أو فعل "لنفترض" غير مرة، فضلاً عن لجوئها إلى كلمة "نافذة" التي ندرك خلفيَّتها المرتبطة بـ"نوافذ" مايكروسوفت.

في ذروة الصدمة تتساءل سوزان عليوان حول فرضية أو حقيقة الزمان والمكان والجسد، بلوغاً إلى تخيل معنى "حياة أخرى"!

*** *** ***

عن النهار، الجمعة 20 أيلول 2002


* مصباح كفيف، طبعة أولى خاصة 2002. ولوحة الغلاف بريشة هند محمد أحمد (ثمانية أعوام)، وهي طفلة مصابة بالسرطان (معهد الأورام القومي، القاهرة).

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود