|
أدونيس
مع أغاني مهيار الدمشقي
ومفرد
بصيغة الجمع
ثانية
في سلسلة "شعر" غاليمار
النص
التأسيسي للحداثة
اسكندر
حبش
لا
شك بأن سلسلة "شعر"
(غاليمار) هي اليوم واحدة من أفضل سلاسل الكتب
الشعرية في العالم، حتى إنها أصبحت تشكل
مرجعاً حقيقياً لخرائطية الكتابة الشعرية؛
إذ عرفت، عبر السنين الطويلة لصدورها، كيف
تحضر في قلب الحركة الشعرية، نشراً ونقاشاً.
كذلك عرفت في السنوات الماضية – وتحديداً منذ
أن استلم الشاعر الفرنسي أندريه فلتير
مسؤولية الإشراف عليها – كيف توسِّع قاعدة
هذا الحضور، حين فتحت أبوابها، بشكل أكبر،
أمام الأصوات الكبيرة الآتية من آفاق مختلفة. لزمن غير قصير، قصرت السلسلةُ
عمليةَ النشر على الشعراء الفرنسيين "الكلاسيكيين"
و"الحداثويين" الأوائل. لكن مع مجيء
فلتير بدأنا نرى حضور شعراء أكثر حداثة
ومعاصرة، ومن جنسيات ولغات مختلفة. آخر
إصدارات هذه السلسلة كتاب جديد لأدونيس يضم
بين دفتيه ترجمة لـأغاني مهيار الدمشقي
ومفردون (وهو العنوان الفرنسي الذي أعطاه
جاك بيرك لكتاب أدونيس الموسوم بـمفرد
بصيغة الجمع – وكان بيرك قد انتهى من ترجمة
الكتاب قبل فترة قصيرة من وفاته). إنها المرة الثانية، إذن، التي
يحضر فيها أدونيس في هذه السلسلة. المرة
الأولى كانت العام 1991 مع كتاب ذاكرة الريح
(بحسب العنوان الفرنسي). وبذلك يكون جلُّ شعره
قد أصبح حاضراً في لغة ديكارت (مع ما صدر من
ترجمات عند ناشرين آخرين)، حاضراً بكل
تنوُّعه واتساعه، حيث يلاقي صدى متصاعداً؛ إذ
يكفي أن تذكر أن كتابه الأول، في هذه السلسلة،
قد طُبِعَ مرات عدة. الكتابان الموجودان اليوم في
سلسلة "شعر" كانا صدرا سابقاً عن منشورات
"سندباد" العام 1983 (أغاني مهيار
الدمشقي) و"سندباد/أكت سود" العام 1995 (مفرد
بصيغة الجمع). بيد أنهما اليوم، في حلَّتهما
الطباعية الجديدة، يأخذان منحى آخر. إذ بعيداً عن أناقة الإخراج وأهمية
السلسلة، نجد
أن جمع هذين الكتابين معاً يعيد تذكيرنا
بقيمتهما الرمزية في الشعر العربي المعاصر. قد يكون كتاب أغاني مهيار
الدمشقي أشهر عناوين أدونيس؛ وهو، حين صدر
في ستينيات القرن المنصرم (مع لن لأنسي
الحاج وحزن في ضوء القمر لمحمد الماغوط)،
شكَّل قطيعة جذرية مع الأشكال والموضوعات
التقليدية المطروقة آنذاك في الشعر العربي،
وربما أيضاً، شكَّل أول مجموعة متناسقة،
يربطها خيط واحد؛ حيث كان فن أدونيس الشعري
يتحقق عبر عملية جينيالوجية مزدوجة: العملية
الأولى تمر عبر "استيحاء" كبار شعراء
الحداثة الغربية، والثانية تستقي حضورها من
الميراث العربي الشعري، لكن في أصواته الحرة.
من هنا كان أدونيس "يتأثر" بالصوفية،
وبنصوص "التيه"، التي شكَّلت كلمات "ملغزة"
للانخطاف والرعب اللذين يكبران في قلوب
الممسوسين؛ كلمات هي عبارة عن شواهد للنار
الداخلية التي تتحرر من الدوغما وتبتعد عنها. أما مفرد بصيغة الجمع فهو كتاب
أشبه بحصيلة شعرية، أو هو بالأحرى طموح
المشروع الشعري الأدونيسي. فهذا "المفرد"
الذي هو "بصيغة الجمع" يرغب في أن يلعب
مجدداً، كأن يعيد إبداع – على طريقته – لعبة
الإبداع. من هنا تتمازج وتتباعد وتتشابك (واللوحة
أشبه بعملية خروج من السديم) مِزَقُ الأساطير،
ظهورُ أبراج غريبة، صفحاتٌ منزوعة
من كتب سرية، استطرادات، حلقة من شخصيات
إشكالية، احتفاءات، أمكنة... لقد وضع أدونيس،
في الواقع، قصيدة متفردة، أو شجرة كثيفة، أو
دلتا متشعبة، حيث إن التناثر ذاته هو الذي كان
يصوغ الواحد نفسه. إنه جسد/قصيدة يحتضن الكثير
من المصائر الضرورية التي تحرك تكونها
وتاريخها وفضاء الكلمات الكيميائي. في كتاب أدونيس هذا كان هناك رهان
على الخلق، حيث الصور والأحلام والانبهارات
والرغبات والهاويات تجد نفسها تتجسد وتنبثق
تحت سماء، حيث تبكي الجثث والآلهة. لقد عادت
الأرض لتصبح غزوة بعد الطوفان؛ أرض لا تزال
بعد مزروعة بالأنقاض. ومع أدونيس "التائه"،
"المتشرد"، كان يعبر كل المتاهات، ويمحو
كل الحدود. تضم الترجمة الفرنسية الصادرة
مؤخراً مقدمة جميلة كتبتْها الروائية
الفرنسية هيلين سيكسوس بعنوان "حقل جراح"،
كما وقصيدة للشاعر الفرنسي الراحل أوجين
غيوفيك بعنوان "فضاء أدونيس". *** *** ***
|
|
|