رسائل ضد الحرب

محنة العقلين الأصولي والحداثي

 

إيلي نجم

 

في رسائل ضد الحرب* الصادر حديثاً (2002) بالإيطالية، ثم بالفرنسية، عن دار ليانا ليفي، يبحث الصحافي الإيطالي تيتسيانو ترتساني عن أوجه الشبه بين تعصب أولئك الأصوليين المسلمين الذين التقاهم على الحدود الباكستانية–الأفغانية، في مدرسة يقتصر التحصيل العلمي فيها على العلوم القرآنية، وبين العجرفة التي تطبع أفعال الغربيين وأقوالهم وأفكارهم، والمتمثِّلة بوثوقهم التام بأن في حوزتهم الحلَّ لمشكلات البشرية برمَّتها. ويضيف متسائلاً: ألا يستوي إيمانُ هؤلاء الأصوليين الأعمى بالله ورهانُ الغربيين الكامل على التقنية والعلم – وهما اللذان صنعا في الحقيقة العقل الحداثي الغربي الذي صنعهما – وعلى قدرتهما على تطويع الطبيعة لخدمة الإنسان؟

 

الواقع أن العقل الديني الأصولي، أكان يهودياً أم مسيحياً أم إسلامياً، اعتبر أن الصيغ والتشكيلات (وهي في الحقيقة صيغ وتشكيلات تاريخية وثقافية عارضة، ارتبطت بمكان وزمان معينين) التي مكَّنته من الوقوف على أصول الدين وأركانه تطابقتْ مع هذه الأركان وتلك الأصول، بحيث استنفدتْها وحلَّت محلَّها بعدما اقتصرت هذه الأركان وتلك الأصول، برأي هذا العقل، عليها. وتالياً، فإن الدين اليهودي أو المسيحي أو الإسلامي، كما تبدَّى لهذا العقل، يحيط بكل شيء؛ بمعنى أن ما جاء به العقل التنويري الغربي، وما جاءت به الحداثة الغربية، وكل ما حقَّقه الآخرون وما سيحققونه، قائم في الدين ومتضمَّن في عقيدته وشريعته وأحكامه. ومعنى ذلك أيضاً أن حقيقة الأشياء قائمة وسابقة على العقل، وأن البشر لا يصنعون هذه الحقيقة، وأن بوسعهم أن يبحثوا عنها ويعثروا عليها في الدين فحسب؛ وتالياً، فالدين هو مقياسها ومرجعها ومعيارها. وهكذا فالبنية الداخلية للعقل الديني الأصولي تلازم العقل الأصولي اليهودي والمسيحي والإسلامي.

أستدل على ما أقول بما قد يجمع مثلاً بين الحكم الذي قضى بتفريق نصر حامد أبو زيد عن زوجته ابتهال محمد يونس (1995)، وقيام جماعة من المسيحيين في العام 415 م باغتيال هيباشيا Hypatia، الفيلسوفة والعالمة الرياضية المولودة في الإسكندرية، وقرارَيْ الكنيسة الكاثوليكية الجائرين بحرق المفكِّر الإيطالي جوردانو برونو Giordano Bruno (1600 م)، والفيلسوف الإيطالي لوتشيليو فانيني Lucilio Vanini (1619 م) أحياء، وطرد الفيلسوف الهولندي اليهودي الأصل باروخ (بندكت) دو سبينوزا Baruch de Spinoza من جماعة المتديِّنين اليهود وحرمانه حقَّه في ممارسة الشعائر الدينية في الكنيس (1656).

فإلى حقيقة تَساوي الأصولية اليهودية والمسيحية والإسلامية جوهراً، ثمة صراع مرير في كلٍّ من هذه الأديان الإبراهيمية الثلاثة بين العقل الثيولوجي (أرسطو) الذي استحال، أو قد يستحيل، عقلاً أصولياً والعقل الأنطولوجي (أفلاطون) الذي استحال، أو قد يستحيل، عقلاً علمياً؛ وهو الصراع الذي أفضى تاريخياً إلى ظهور العقل العلمي في المجتمعات المسيحية الغربية، في الوقت الذي لا يزال فيه أرسطو يعاند أفلاطون، إذا صحَّ التعبير، ويتصدَّى له في المجتمعات اليهودية والإسلامية. ولعل اتِّهام الغرب "المسيحي" الإسلامَ بالتعصب والتخلُّف والقصور يعود إلى رفض الغرب إيَّاه لمسيحيةٍ غابرة يذكِّره بها إسلامُ اليوم، علماً أن العقل المسيحي الأصولي المشرقي مازال شغَّالاً ولم ينحسر كما انحسر صِنْوُه (العقل المسيحي الأصولي الغربي) أمام صعود العقل العلمي. كما نلاحظ أن ابن رشد شبه مغيَّب في العالم الإسلامي، في حين أنه قد حَظِيَ باهتمام كبير في الغرب. وثمة مَن يراهن أخيراً، في الشرق والغرب على السواء، على مسلمي الغرب لحسم الصراع لمصلحة العقل العلمي.

إلا أنه ينبغي ألا يغرب عن بالنا أن هذه الخلفية الوجودية (أي الأنطولوجية) والمعرفية (أي الإبستمولوجية) التي يقوم عليها العقل الديني الأصولي هي عينها التي يقوم عليها العقل الحداثي الغربي. فقد اعتبر هذا الأخير، في مراحل تكوُّنه الأولى (العلموية والوضعية) واللاحقة (الوضعية المنطقية) – ولعله ما زال يعتبر عند بعضهم – أن العقل فيه كل شيء، وتالياً، فهو يكوِّن المخزون الشامل للحقيقة، وهو مقياسها ومرجعها ومعيارها. أنستدلُّ بذلك على أن الوثوق الكامل والأعمى بالعقل يوقعنا من جديد في حبائل اللاعقل وكمائنه، ويعيدنا إلى ما عبناه، ونعيبُه، على العقل الديني الأصولي الذي ندَّعي أننا قطعنا معه وانقطعنا عنه؛ وهو الوثوق إياه الذي يودي بنا حين يؤدي بنا إلى نوع من اللاعقلانية المقنَّعة؟!

الواقع أن العقل الديني الأصولي اندرج ويندرج في خانة الميتافيزيقا؛ وقد تولد على أنقاضه في الغرب عقلٌ تنويري حداثي غربي ساكَنَه وتبنَّى إوالياته ونحا مناحيه. فـ"التقديس" الذي قام بتسييج العقل الديني الأصولي قابَلَهُ "تأليه" العقل في فلسفة الأنوار و"تبجيله" في الدعوات العلموية والوضعية والوضعية المنطقية، وذلك عبر صياغة مفهوم التقدم الخاص بـ"عقل الأنوار" في أوروبا، وعبر إقصاء الجنون، كما بيَّن ميشيل فوكو، عن دائرة العقل والحَجْر على المجانين في المصحات والمشافي والمآوي، وعبر قيام مركزية اللوغوس Logocentrisme السائدة باستبعاد الثقافات والحضارات الأخرى ("الذهنية السابقة على المنطق" عند لوسيان ليفي برول)، كما عبر إدراج الإسلام إياه حالياً في خانة اللاتسامح والتعصب والإرهاب وحشره فيها...

وإذا كان العقل الديني الأصولي قد اعتبر، ويعتبر، أن الحقيقة هي وقف على الألوهة، ولا يحق للبشر أن يتطاولوا عليها، فإن كانط اعتبر مثلاً أن كنه الظاهرات هو، في إطار التجربة، وقف على ملكة الفهم التي ارتبطت، من جهة أولى، بما هو دونها (ملكة الإحساسية)، ومن جهة ثانية، بما هو فوقها (ملكة العقل)، في الوقت الذي تاه فيه العقل النظري وضلَّ حين قطع مع التجربة وانقطع عنها، فأفرز الميتافيزيقيات الثلاث (الأنا والعالم والله)، التي ستغدو لاحقاً عنده ما دعاه هو بالذات "مصادرات العقل العملي".

وهكذا، فالخطر المحدق بنا كان، وما زال، مزدوجاً: فالعقل الميتافيزيقي الذي حَكَمَنا غلَّب فينا عقلاً دينياً أصولياً أسَرَنا، كما غلَّب علينا عقلاً حداثياً غربياً استلبنا. إلا أن "في الخطر يتنامى الخلاص"، كما يقول الشاعر الألماني هولدرلن. و"الخلاص"، في لساني العربي، "نهاية" و"نجاة": نهاية عصر الميتافيزيقا، ونجاة بالولادة الجديدة من رحمها في عصر ما بعدها.

فهل من قابلة تقبلنا وتستقبلنا، فتحتضننا وترعانا؟

*** *** ***

عن النهار، السبت 16 تشرين الثاني 2002


* Tiziano Terzani, Lettres contre la guerre, Liana Levi, 2002.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود