|
الخلوة الملكيةكتاب
الأسرار واللحظات المتوهِّجة
كميل
داغر
رغم
الخصوصية الشديدة لأدب أنطوان الدويهي، لا
حاجة إلى معرفته شخصياً للكتابة عن هذا الأدب
لشدة ما هما لصيقان ومتشابهان، ولتلك
الشفافية التي يطلُّ بها علينا، حتى يعتقد
المرء أنه يعرفه منذ البدء، بكل عناصره
وخلجاته وهواجسه وأحلامه. فالحياة هنا، لكنْ
في جوهرها العميق، تنضح بكلِّ مياهها
الداخلية، ويغدو النص جزءاً لا يتجزأ من
الحياة؛ حتى إنك قد تتساءل أحياناً: هل حياة
أنطوان الدويهي شيء آخر سوى التعبير عنها،
وهل يسع الكاتب أن يتصور نفسه حياً إلا بقدر
ما تكون هذه الحياة موضوعاً للكتابة، خاصة ما
يسميه "الكتابة المطلقة". إنه
يحيا ويراقب نفسه كيف يحيا. يرى العالم
الخارجي في عبوره، ويسجل هذا العبور في
انتظار إنزاله في النص الذي سيؤبِّد حركة
الحياة، يحفظها في الكلمات. كما لو أن الكاتب،
الذي يشعر بأنه الوحيد المؤتمَن على موتى
مدينته، لكونه "الوحيد الذي أدرك سرَّ
موتهم وحفظه في نفسه"، إنما يعتبر نفسه
أيضاً مؤتمَناً على مشاهد الحياة التي باتت
محفوظة لديه. المشاهد الجوهرية التي ترتبط
بلحظات التوهج الكلِّي في ذاته، أو التي
تُحدِث ذاك التوهُّج. من
أين ندخل في هذه الكتابة المتوهِّجة، المطلقة؟ فثمة أشياء لا تحصى يمكن الاستفاضة
في رصدها والغوص في دقائقها وأبعادها، إنما
لا متَّسع هنا لذلك. لذا نختصر، وإن كان
الاختصار يهدد بتقديم صورة جزئية عن عالم
أنطوان الشاسع والعميق والموغل في الكثافة. في
أيِّ حال، ربما علينا الاكتفاء بإطلالة عاجلة، إضاءة
محدودة، منطلقين من وصف الكاتب لذاته، حيث يقول: "كأني
أودُّ البقاء في نظر
نفسي على الدوام ذلك الفتى الناحل، الشفاف
الروح، المقيم في زمنه الذاتي، المنفصل عن
الخارج، المسكون بالرأفة، المؤمن بجمال
العالم، الموضوع في سرِّ المشاعر، والعارف كل
شيء قبل أن يعرف شيئاً." "المقيم
في زمنه الذاتي"، يقول. تعبير يردده في "الشاهد
الأخير" في صيغة أخرى: "مثولي داخل نفسي"،
حتى نكاد نظن أن أنطوان لا يخرج من هذه النفس،
ولا يغادر هذا الزمن الذاتي على الإطلاق. وثمة
الكثير من المشاهد والحالات والأوصاف
والأوضاع نقع فيها على هذا الجو الداخلي
الخالص الذي يشهد لخصوصية كل شيء: المشاعر،
والهواجس، والأفكار، والمعارف، والأحلام،
والرؤية إلى أشياء الكون وأشخاصه، والتفاعل
معها. لكن
ما ينبغي ألا نتجاهله، في المقابل، هو أنه
بقدر ما تشكل كتابة صاحب الخلوة الملكية (وما
سبقها من كتابات) صورة عن ذاك "الزمن الذاتي"،
وتعبِّر هكذا عن فرادتها، تندفع إليها بجلبة
حيناً، وهدوء أحياناً، حالةُ الجماعة. ولعلنا
لا نبالغ لو قلنا إن جمهوراً من الناس (أحياء
وأمواتاً) يشاركون في صنع هذا الكتاب الغريب
الذي ينقل، في جزء أساسي من ملابساته وأسراره، روايات الأهل (والحبيبات)
ومشاهداتهم وهواجسهم وأوهامهم. يلعب الكاتب،
رغم أصالة كتابته، دور الوسيط من بعض النواحي.
يتحدث باسم جماعة هي كذلك على درجة عالية من
الخصوصية والفرادة والغرابة. تقف غرابة
الواقع وغناه، في شكل حاسم، وراء غرابة
الخيال الذي تنهض الكتابة على أرضه – مع
تفصيل بالغ الأهمية: الوسيط هنا لا يكتفي بدور
المنفعل، المتلقي، بل يجمع إليه دور المبدع
الفاعل الذي لا يقتصر على نقل ما يتناهى إليه
من الوسط الاجتماعي الذي يتداخل لديه الواقع
شبه الأسطوري (المتمثل، مثلاً، بقصة الست
ماريا وجثة ابنها) مع قصص القتل المأسوية
والأجساد المسجَّاة والناس الهاربين
بأجسادهم إلى الأماكن المغلقة، حيث يتوقف
الزمان، بل يُدخِل مساهمة هذا الوسط زمنَه
الذاتي، ويعيد إنتاجه في مُصْهِره الخاص
المتشكل من مشاعر، وخيالات، وهواجس، وذكريات،
وإدراكات، ورؤى، وملكات، هي مشاعره
وهواجسه وإدراكاته وملكاته ورؤاه. هذا
الزمن الذاتي تحديداً يقدِّم إلينا مشاهد
الحياة والطبيعة والعلاقات الإنسانية
وفصولها، التي تبدو عادية جداً للغالبية
الساحقة من الناس، وقد تبدَّلت تماماً واتخذت
طابعاً عجائبياً مسحوراً: كما هي الحال مع تلك
البِركة الليلية الصغيرة التي يحفظ ماؤها "في
حوضه الليلي كلَّ وقائع صبانا"؛ أو مع بيت
التلة الذي "كان يراودنا في كل مرة ننظر
إليه حلمُ السعادة"؛ أو مع ساحة القرية
الجبلية التي لم يرها يوماً ولم يعرفها قط،
لكنها معروفة لديه "أكثر من أي مكان"؛ أو
مع تلك الإقامة لليلة واحدة في ذاك القصر–الفندق
مع تلك المرأة، حيث بدا الوقت كأنه "مر
كلحظة واحدة"، وكانا "موصولين بروح
المكان" فكاد يدرك "كل ما حصل فيه على مرِّ السنين"، وكان يقول في نفسه: "يمكنني
[...] ويدي في يد هذه المرأة، أن أختصر الحياة
البشرية كلَّها، وأن أشهد لسلسلة حيوات
ومصائر لا حصر لها، كأني عشت ألف عام."
وأخيراً وليس آخراً، مع تلك المقاطع الحميمة
التي يمكن جمعها تحت عنوان "الرحلة إلى
فيرونيكا". بين
أجزاء هذا الكتاب تشكل المقاطع الخمسة التي
تصور الرحلة إلى فيرونيكا (ص 119-144) مختصَراً
لعلاقة أنطوان بالزمن، والحب، والأمكنة،
والذكريات، واللحظات المتوهِّجة، والموت،
ولغرابة تلك العلاقة وفرادتها. كل الأشياء،
ههنا، تتواطأ مع رغبات الكاتب وأحلامه
وهواجسه: من المصادفة التي أعادت وَصْلَه
مراراً بفيرونيكا على مدى سنوات من الفراق،
إلى أشجار الحديقة التي كانت تنظِّم تلك
اللقاءات، إلى الاقتناع الراسخ في نفسه بأنه
بعد إحدى وعشرين سنة على ابتعادهما الواحد عن
الآخر سيلتقيان مجدداً لمجرَّد أن رغبته في
رؤيتها "كانت من القوة بحيث لا يمكن أن لا
تتحقق". في هذه الرحلة سوف نعرف أن مَن
يحبُّهن أنطوان كثيرات الشبه بالمثال الذي
يحمله في نفسه. منذ متى؟ لا أحد يدري، ولا هو
كذلك. كل ما نعرفه هو تجسُّدات ذاك المثال،
منذ "فتاة الشرفة" في مرحلة "المراهقة
المتوهِّجة"، وصولاً إلى فيرونيكا. في
هذه الرحلة أيضاً نرى العلاقة بين الحب
والزمن والطبيعة والموت في معرض استعادته
ذكرى آخر لقاء مع فيرونيكا في غرفة مسدَلة
الستائر، يصل ضوء الخارج إليها "بعيداً،
خافتاً، فينيره في صورة شبه سحرية، مولِياً
أشياءه حضوراً لا زمنياً. في تلك القاعة، كانت
قد بدأت تدرك الظلمةُ جسدَ فيرونيكا الناصع
"وتدمجه شيئاً فشيئاً في هذا الكلِّ العميق
الهدوء، المسكون بما يشبه رائحة الأزاهير
البرية. قلت لها حينئذ همساً: "كم يبدو
الموت جميلاً في هذه اللحظة."" فيا له من
موت يتناقض الموقف حياله تناقضاً مطلقاً بحسب
ما يكون موت الآخرين – الذي يرفضه أنطوان
رفضاً جازماً، في انتصار وجودي حميم للإنسان
ضد القوى الماورائية المسؤولة عن بقائه أو
عدمه – أو موته الشخصي الذي يمكن أن تصل
العلاقة به إلى حدود المودة والصداقة والرغبة
في عدم العودة! منح
أنطوان الدويهي كتابه الأول عنوان كتاب
الحالة – ويعتبره كتاب الشعر الوحيد – إلى
جانب كتبه الثلاثة الباقية (حديقة الفجر، رتبة
الغياب، الخلوة الملكية) التي يرى فيها
أعمالاً نثرية. أما أنا فأعتقد أن الخلوة
الملكية كسابقيه، هو "كتاب الحالات"،
وتحديداً الحالات الشعرية. وأنطوان الدويهي
راصد الحالات الشعرية وصانعها. فما هي ساحة
القرية الجبلية؟ ومن فتاة الشرفة؟ وما هو بيت
التلة المعزول؟ وما هي صورة المرأة البهية
والفارس الرهيف على الجواد الأغبر؟ ومن
المرأة العارية "المضطربة الروح، التي
كانت ترتاح في الإقامة في شيئين: ضوء القمر
والمياه الليلية الباردة؟" وما هو نهر
الزمان الذي يفصل بين مدينتي الشتاء والصيف؟
وما هي الرحلة إلى فيرونيكا؟ كلُّها حالات
شعرية مفعمة بالرهافة والدهشة. والجو العام
الذي ينتظم الكتاب، من فاتحته، "النهر
الآخر"، إلى كلمات الفارس الفتى التي
تُختتَم بها الخلوة الملكية، ذلك الفارس
الماثل على سرج حصانه المذهَّب، والمقدِّم
للكاتب شيئاً ذهبياً كثير الشبه بالكأس التي
تحفظ سرَّها تحت غطاء محكم الإغلاق – ذاك
الجو هو أيضاً عجائبي، شعري، مسحور... *** *** *** عن
النهار، الخميس 8 تشرين الثاني 2001
|
|
|