|
قضية العلاقة بين الدين والثقافةحاجة
الفكر الديني ماسَّة إلى الحرية
وحاجة
ثقافاتنا ماسة إلى شفافية الدين
السيد
محمد حسن الأمين
موضوع
الدين والثقافة من المواضيع التي تتعدَّد
وجوه القول والبحث فيها. وبالأساس فإن مصطلح
"ثقافة" مصطلح إشكالي، لا يستقر على
تعريف محدَّد جامع مانع. كما أن مفهوم الدين (وليس
الدين نفسه) مفهوم ملتبس، على الأقل لجهة
التمييز بين ما هو دين، وبين ما هو فكر ديني.
وإذا كان الفكر الديني هو المعرفة البشرية
بالدين، تَحتَّم علينا أن نصنِّف الفكر
الديني في خانة المعطى الثقافي. ولكن هذا
التصنيف لا يتم إلا بعد التوافق على أن مصطلح
الثقافة، مهما تتباين تحديداته وتعريفاته،
فإنها تُجمِع على أن النشاط الفكري المعرفي
هو عنصر أساسي من عناصر مصطلح الثقافة. وهكذا
تغدو الخبرة الدينية هي أيضا خبرة ثقافية.
ولعل هذا هو ما يسوِّغ استعمال مصطلح "الثقافة
الدينية" إلى جانب مصطلحات ثقافية أخرى،
كالثقافة العلمية، والثقافة الأدبية،
والفنية، والسياسية، إلخ. إذن
كيف نبحث في الخبرة الدينية – وهي خبرة
ثقافية – من منظار فلسفي معرفي، أي من منظار
ثقافي؟ ألا يغدو البحث حينذاك بحثاً في
الثقافة نفسها من منظار ثقافي؟ – بما يعني أن
الثقافة تسأل عن ذاتها. بين
الدين والثقافة
لا
شك، إذن، أن المعرفة الدينية (ومعها – بل
ضمنها – الخبرة الدينية)، وإن تكن مستندة على
الوحي، ومستمَدة في عناصرها الأساسية منه ومن
الإيمان به، إلا أنها ليست الوحي نفسه. إنها،
ببساطة، القراءة البشرية للوحي. وبهذا
التعريف للمعرفة الدينية يصبح واضحاً الفرقُ
بين الدين والثقافة الدينية، وبين الوحي
ومعرفة الوحي. فإذا كان الدين – الوحي –
مصدره الله فإن المعرفة أو الثقافة الدينية
مصدرها البشر. ونحن لا نورد هذا التمييز بين
الدين والثقافة الدينية لننفي صفة التقديس عن
الثقافة الدينية، ونثبتها للوحي وحده؛ فهذا
أمر بات مفروغاً منه. كما لا يجوز التورط، من
جديد، بإسباغ المقدَّس على ما هو بشري، لأن كل
ما هو بشري فهو نسبي، أي ناقص ومتحوِّل.
ولكننا نورد هذا التمييز بينهما تمهيداً لبحث
العلاقة بين الدين والثقافة. ما
العلاقة بينهما؟
يخيل
لي أن الدين هو جواب إلهي عن سؤال ثقافي بشري.
سؤال لم يكن في وسع المعرفة البشرية الجواب
عنه؛ ولا تزال المعرفة البشرية عاجزة، وستبقى
كذلك. فما هو هذا السؤال؟ ولماذا سميناه سؤالاً
ثقافياً؟ ثم لماذا كان سؤالاً معجِزاً
لا يستطيع الكائن الإنساني أن يقدِّم الإجابة
الحاسمة عنه؟ إنه
سؤال الوجود: ما هو هذا الوجود؟ ما مصدره؟ هل
لهذا الوجود بداية؟ وهل له نهاية؟ وأين يكمن
المعنى الأسمى لهذا الوجود؟ وما هو موقع
الكائن الإنساني فيه؟ وما هو مصيره؟ كل
الإجابات البشرية عن الطبيعة والمادة وعن
جميع مظاهر الوجود، مما دخل في نطاق العلوم
الإنسانية والعلوم التطبيقية، لم تُجِبْ،
ولم تقترب من الجواب، عن سؤال الوجود، وسيبقى
هذا السؤال لغزاً في معزل عن معطيات الدين. ولكن
هذا السؤال يبقى، في طبيعته، سؤالاً ثقافياً،
بل سؤال ثقافي في المقام الأول، لأنه سؤال
الحيرة والبحث عن المعرفة. ثم إن الدليل
الأسطع على اعتباره سؤالاً ثقافياً يظهر
بوضوح في انهماك الآداب والفنون والفلسفات،
منذ فجر التاريخ، في تحدِّيات هذا السؤال
وتداعياته، حتى يمكن القول إن ما من إبداع في
مستوى الفلسفة والأدب والفن يمكن اعتباره
إبداعاً نوعياً ما لم يتضمن تلك الحيرة التي
يتفتح عنها سؤال الوجود الخالد. أما
كونه سؤالاً معجِزاً لا تقع الإجابة عنه في
دائرة الطاقة البشرية فذلك لأن كل إجابة
للعقل البشري في هذا المضمار تعيد إنتاج
السؤال من جديد وتؤكده، حتى لتبدو الإجابات
البشرية بمثابة غابة جديدة من الأسئلة
المتفرعة عن سؤال الوجود الأول نفسه. الدين،
إذن، بوصفه الإجابة الوحيدة الممكنة عن سؤال
الوجود والبداية والمصير، لا يمكن أن يكون
مصدره بشرياً، بل لا بد من كينونة أعلى من
الكائن الإنساني تكون هي المصدر الذي تصدر
منه الإجابة – وهي الله. ووفق المؤمنين، فإن
الإنسان تلقَّى الإجابة عن هذا السؤال من
طريق الوحي من الله بواسطة الأنبياء. إن
علماء الكلام يرون أن الكائن الإنساني تعرَّف
إلى وجود الله من طريق العقل، وأن العقل
البشري محكوم بفكرة وجود المبدأ الأول. وكثير
من الفلاسفة يرون ذلك، ويرون أن العقل يستقل
بمعرفة وجود الله بدون أية إضافة معرفية من
خارج العقل. وما عدا ذلك من معارف غيبية،
كالبعث والثواب والعقاب، مصدره الوحي. الوحي
وهكذا
بات الوحي مصدراً للمعرفة عند البشر. وهي
معرفة مختلفة بطبيعتها عن المعارف التي تأتي
ثمرة مباشرة لحركة العقل. والعلاقة بينهما (أي
بين معطيات المعارف العقلية ومعطيات المعرفة
من طريق الوحي) ليست علاقة تناقُض وتضاد.
فالعقل البشري – في أي حال من الأحوال – إن لم
يستطع أن يُثبِت معطيات الوحي فإنه لا يستطيع
أن ينفيها. والعقلانيون – في أقصى درجات
تعصُّبهم لمعطيات العقل – لا يستطيعون
الادعاء أن الغيب هو ميدان من ميادين عمل
العقل البشري. إن
معطيات المعرفة المستمَدة من الوحي لا يصحُّ
القول فيها إنها ليست نقيضاً لمعطيات المعرفة
العقلية فحسب، بل من الواضح أنها ترتبط بها من
وجهين؛ ولا قيمة لأية معرفة غيبية تنفصل
انفصالاً كاملاً عن العقل وقوانينه. الوجه
الأول: إن الأساس الذي يقوم عليه الإيمان
بالوحي، وبالتالي التصديق بمعطيات الوحي
الغيبية، هو أساس عقلي أو على الأقل – كما
بينَّا قبل قليل – هو أساس لا يتنافى مع
معطيات العقل. والوحي، بدوره، لا يهدم معطيات
المعرفة العقلية، بل يطلب من الإنسان تفعيل
هذه المعطيات، بما يؤول إلى استخدام العقل في
أقصى طاقاته، كما يظهر جلياً في المساحة
الاستثنائية المخصَّصة في القرآن الكريم
للحثِّ على العلم وتمجيده وعلى احترام معطيات
العقل. الوجه
الثاني: إن الوحي، بمجرد صدوره عن الذات
الإلهية وصيرورته نصاً لغوياً، يغدو ميداناً
من ميادين حركة العقل البشري. فنحن نتلقَّى
الوحي ونفسِّره ونؤوِّله بواسطة العقل. وكذلك
فإن عناصر المعرفة – أي الثقافة التي نتوفَّر
عليها – تغدو مؤثرة في علاقتنا بالوحي، أي في
قراءته واستلهامه. كما أن الوحي نفسه يغدو
عنصراً فاعلاً في تكوين الثقافة وإنتاجها، في
جدل دائم لا نهاية لتداعياته. فالمعرفة
الغيبية مرتبطة بالعقل ابتداءً، أي في اكتشاف
ضرورة المبدأ الأول؛ ومرتبطة به انتهاءً، أي
في صيرورة الوحي مادة لعمل العقل. ثم
إن الدين–الوحي، بوصفه جواباً إلهياً على
سؤال ثنائي بشري – وفق ما شرحناه آنفا – يغدو
فصلُه عن مفهوم الثقافة وقوعاً في مفارقة
منطقية. فما دام الدين وليد سؤال ثقافي، كيف
يمكنه أن يعيش ويحيا خارج حاضنة الثقافة؟ فسواء
في حالة النظر إلى الدين–الوحي بوصفه منزلاً
من الذات الإلهية، أو في حالة اعتبار الدين
ظاهرة تاريخية بشرية أمْلتْها حيرةُ الإنسان
أمام الوجود أو خوفُه من المجهول (وفقاً لغير
المؤمنين بالرسالات السماوية) فإننا لا
نستطيع – في الحالتين – سلبَ الخبرة الدينية
بُعدَها الثقافي. وإذن،
فإن حضور البعد الثقافي في الخبرة الدينية هو
ظاهرة موضوعية، ليست مفتعلة من أجل أغراض
دينية أو أغراض إلحادية. لذلك نرى أن توسيع
دائرة التعامل بينهما (الدين والثقافة) مسألة
يُمليها هذا الواقع الموضوعي، وصولاً إلى
التماس الحدود والأبعاد المشتركة بينهما،
وكذلك الحدود والأبعاد التي تخص كلَّ واحد
منهما. إن
الحدود التي تحصَّن فيها الفكر الديني ضد
أسئلة الثقافة وتحدياتها انتهت بعزلة الدين
في حقبة من حقب التاريخ، أي في القرون الوسطى
الأوروبية التي تلتها حقبة عصر النهضة في
أوروبا وسيادة المذهب العلماني. إن إقامة
الجدار العازل على يد المؤسسة الدينية
المسيحية في أوروبا بين الدين وأسئلة الثقافة
وإنجازاتها النوعية في العصر الأوروبي
الوسيط لم تكن من إملاء الضرورات الدينية على
الإطلاق، ولكنها كانت ضرورة من ضرورات السلطة
الدينية. وادعاء الكنيسة امتلاك الحقيقة
الكاملة في شأن حركة الكون والحياة والمجتمع
والتاريخ، وفي تفسير الظواهر الفلكية
والطبيعية، لم يكن عدواناً على حقِّ الإنسان
في الاكتشاف والمعرفة وحسب، بل كان عدواناً
على الدين نفسه بتقويله ما لم يقله؛ أو هو
بالأحرى عدوان علي مقاصد الدين المتجهة أصلاً
لأن تكون معرفةُ الحقائق والأسرار المحيطة
بالإنسان، من ظواهر كونية وطبيعية، ثمرةً من
ثمرات سعي الإنسان نفسه نحو الاكتشاف
والمعرفة. وهكذا
تغدو كل محاولة لعزل الدين عن تحديات المعرفة
(وكذلك توسيع صلاحيات الدين للإجابة الكاملة
عن أسئلة لا تقع في دائرة صلاحياته هو صورة من
صور عزله) محاولةً لتجريد الدين من بعده
الثقافي الذي يتصل فيه ابتداءً، استمراراً،
ومصيراً. مصدر
الحقيقة
ما
مصدر الحقيقة؟ هل هو الله أم العالم؟ هذا
هو السؤال الذي يلخِّص الصراع الذي قام بين
الكنيسة والعلمانية. لم
تقل الكنيسة إن الدين هو مصدر مطلق للحقائق
الغيبية فحسب، بل جعلت الدين مصدراً لكل
تجلِّيات الحقيقة، سواء كانت غيبية أو من
عالم الشهود، بما يعني تعطيل إرادة الإنسان
في اكتشاف الحقائق أو في صنعها. لقد
سقطت الكنيسة (أو بالأحرى لقد سقط مفهوم
الكنيسة عن الدين) أمام العلمانية في حدث
تاريخي مدوٍّ، قامت على إثره حضارة ضخمة (الحضارة
الأوروبية) مؤسَّسة على نزعة العداء للدين،
وعلى الفصل الكامل بين معطيات العلم والمعرفة
(الثقافة) والدين؛ الأمر الذي حرم هذا النموذج
الحضاري بُعداً روحياً كان في أشد الحاجة
إليه. نخلص
مما تقدم أنه لا توجد أزمة مفهوم بين الدين
والثقافة. كما أن الأزمة التاريخية بين
المؤسَّسة الدينية المسيحية والعلمانية لم
تكن أزمة تداخُل بين مصادر الحقيقة
وتجلِّياتها في الوعي البشري؛ بل كانت للفكر
الديني أزمته وللفكر العلماني أزمته. إنها،
إذن، أزمة فكر تجاه أزمة فكر آخر – أي أزمة
الاتجاه الفكري الديني تجاه الفكر العلماني. إن
الفكر الإسلامي الحديث، متحلِّلاً من تراث
الأزمات التي ضربت العلاقة بين الفكر الغربي
الديني والفكر الغربي العلماني، قادر،
بزعمي، أن يتخطَّى الوقوع في هذه المأساة،
وأن يقدم نموذجاً باهراً لتفاعل الدين
والثقافة. إن
حضور الفكر الديني البشري في الاجتماع
التاريخي الإسلامي لا يمكِّن أية مؤسسة دينية
من احتكار الدين عن حركة الثقافة والعالم؛
وإلا لحصلت عملية فصل الدين الإسلامي عن
المجتمع وعن الدولة منذ عدة قرون. وسرُّ
ذلك في التجربة التاريخية الإسلامية أنها،
منذ البداية، اكتشفت وتذوقت الثمار الحلوة
لهذا التفاعل العميق بين معطيات الدين
ومعطيات الفلسفة والعلوم. فلم يحدث في تاريخ
الاجتماع الإسلامي أن اكتشف أحدٌ قانوناً
فلكياً مخالفاً للمعارف الشعبية الدينية
المكرَّسة، واستُدعِي للمحاكمة أو لتهمة
التجديف على الذات الإلهية. بقي
القول إن الثقافة ذات طبيعة نقدية ووظيفة
تنويرية. وهذا ما يؤهِّلها لأن تغدو مصدر
حساسية أمام الفكر الديني. فهل نغلق الفكر
الديني ولا نعرِّضه لنقد الثقافة واستفزازها
بحجة الحفاظ على قدسية الدين، فنعود إلى عصور
الانحطاط؟ أم نفعل العكس في دفع الثقافة
ومعطياتها إلى أقصى درجات التفاعل مع الفكر
الديني، فيكون هذا بداية لإرساء أسُس التجدد
الحضاري الإسلامي في هذا المفصل التاريخي
المخيف من تاريخ أمتنا؟ إن
حاجة فكرنا الديني ماسة إلى قوة الحرية كما
تتجلَّى في الثقافة الحية؛ كما أن حاجة
ثقافتنا ماسة إلى يقين الدين وشفافيته كما هي
في الفكر الديني الأصيل. *** *** *** عن
النهار، السبت 12 كانون الثاني 2002
|
|
|