نظرية الشعر في كتاب دلائل الإعجاز

حداثتنا الشعرية ضاربة الأصول في التراث النقدي العربي

عبد القاهر الجرجاني أرسى منذ القرن الخامس الهجري أهم أسس النقد الحديث

 

 نزار بريك هنيدي

بالرغم من أن كتاب دلائل الإعجاز* لعبد القاهر الجرجاني قد حَظِي بعدد كبير من الدراسات والمراجعات في العصر الحديث، إلا أن الحاجة مازالت ماسَّة، كما أعتقد، إلى تسليط مزيد من الأضواء عليه، لا لاكتشاف ما بقي مخبوءاً من أسراره فحسب، بل، وفي المقام الأول، لتشجيع الأجيال الشابة من الشعراء والنقَّاد ودارسي الأدب على قراءته والنهل من معينه؛ وكذلك للتوجُّه إلى عدد من النقاد والأدباء الذين ما زالوا يحتمون بالتراث لمهاجمة بعض المقولات الشعرية الحديثة، ووَصْمِها بأنها مستورَدة من الغرب وتخالف ما عرفه التراث النقدي العربي، وذلك بغية تحريضهم على قراءته ليدركوا أن كثيراً من المقولات النظرية الشعرية التي يهاجمونها قد سبق للنقد العربي التراثي أن توصَّل إليها على يد هذا الناقد العربي الفذ الذي استطاع أن يضع أسس نظرية جمالية في الفن الشعري تميِّز الشعر عن النثر بخصائص بنيوية أعمق من الوزن والقافية، وتتعرض لأدق المسائل التي مازالت مدار شغل النقاد والمنظِّرين حتى يومنا هذا.

ومن الطريف أن نلاحظ أن كثيراً من النتائج التي يُثْبِتُها الجرجاني تكاد تتطابق مع عدد من مقولات نظريات الشعرية الحديثة التي عرفناها مع رومان ياكوبسون ورولان بارت وجان كوهين وغيرهم. وهذا ما سنحاول الإشارة إليه في هذه العجالة التي لا تطمح إلى أن تكون أكثر من إضاءة سريعة على ما يتضمَّنه هذا الكتاب من أفكار تصلح لأن تكون عناصر في نظرية متكاملة عن الفن الشعري.

والجرجاني هو عبد القاهر أبو بكر بن عبد الرحمن بن محمد؛ وكان ابناً لأسرة رقيقة الحال، فلم تُعْنَ بتسجيل يوم ولادته الذي بقي مجهولاً؛ أما وفاته فكانت عام 471 للهجرة. وبالرغم من أن عبد القاهر لم يغادر مدينته جرجان إلا أنه تتلمذ على الكتب. وقد غلب عليه ولعُه بالنحو، إلى جانب ثقافته الدينية، إلى درجة لُقِّب معها بـ"النحوي". وقد ألَّف عبد القاهر الجرجاني في النحو والصرف والبلاغة، وفي تفسير القرآن، وفي العروض والمختارات الشعرية. إلا أن أهم آثاره على الإطلاق هما كتاباه أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز. والثاني هو الكتاب الذي نتناوله اليوم. (النسخة التي اعتمدناها هي التي راجعها وصحَّحها الإمام الشيخ محمد عبده ونشرها محمد رشيد رضا.)

في هذا الكتاب يضع المؤلف أسس علم المعاني، ويسبر غور الفصاحة والبلاغة ليبيِّن أسسَهما ويضع نواظمهما. وهو ينطلق في بحثه من "أننا إذا كنا نعلم أن الجهة التي منها قامت الحُجَّة بالقرآن هي أنه كان على حدٍّ من الفصاحة تقصِّر عنه قوى البشر، كان محالاً أن يعرف كونَه كذلك إلا مَن عرف الشعر الذي هو ديوان العرب وعنوان الأدب" (ص 7)، كما يقول. ولذلك فهو يستهلُّ كتابه بفصل هام يبيِّن فيه دور الشعر وأهمية الاشتغال به، ويردُّ فيه رداً مفحِماً على من زَهَد في روايته وحفظه، وذمَّ الاشتغال بعلمه، مؤكداً أن الرسول العربي كان يسمع الشعر ويستنشده ويستحسنه، بل ويأمر به أيضاً. وبذلك يصحح الجرجاني الفكرة الشائعة التي تزعم أن الإسلام وقف ضد الشعر وأدان الشعراء.

ثم يعقد الجرجاني بعد ذلك فصلاً في البلاغة والفصاحة، ويؤكد أن البلاغة ما هي غير "أن يؤتى المعنى من الجهة التي هي أصحُّ لتأديته، ويُختار له اللفظ الذي هو أخص به، وأكشف عنه، وأتم له، وأحرى بأن يُكسِبه نبلاً ويُظهِر فيه مزية" (ص 35). وهو ينكر أن يكون هنالك لفظة فصيحة وأخرى غير فصيحة. وإنما تصبح الكلمة فصيحة "باعتبار مكانها من النظم وحسن ملائمة معناها لمعاني جاراتها وفضل مؤانستها لأخواتها" (ص 36). وبهذا المعنى فلا توجد لفظة شعرية وأخرى غير شعرية؛ وإنما تصبح اللفظة شعرية حسب مكانها من النظم: "ومما يشهد لذلك أنك ترى الكلمة تروقك وتؤنسك في موضع، ثم تراها بعينها تثقل عليك وتوحشك في موضع آخر." (ص 38) وليس النظم هو "توالي الألفاظ في النطق بل هو تناسق دلالتها وتلاقي معانيها": "إن العلمَ بمواقع المعاني في النفس، علمٌ بمواقع الألفاظ الدالة عليها في النطق." (ص 44)

ثم ينتقل المؤلف إلى الحديث عن الكناية والمجاز، ويقول إن "الكناية أبلغ من الإفصاح، والتعريض أوقع من التصريح. وإن للاستعارة مزية وفضلاً، وإن المجاز أبداً أبلغ من الحقيقة" (ص 55).

وهو يعرِّف بالمجاز بأنه "كل لفظ نُقِل عن موضوعه" (ص 53). نلاحظ هنا أن الجرجاني يلامس مصطلح "الانزياح" الذي قال به أصحاب نظريات الشعرية الحديثة؛ وبذلك يكون الجرجاني هو أول من تحدث عن الانزياح وسمَّاه: "نقل اللفظ عن موضوعه". كما يسميه في موضع آخر "الإمالة"، وهو أن يميل اللفظ عن معناه الذي وُضِع له في الأصل.

ويؤكد الجرجاني على غلط من قدَّم الشعر بمعناه وأقلَّ الاحتفال باللفظ، ويقول إنه "ينبغي، إذا فضَّلنا بيتاً على بيت من أجل معناه، أن لا يكون تفضيلاً له من حيث هو شعر وكلام" (ص 197). إذ "إن سبيلَ الكلام هو سبيل التصوير والصياغة، وإن سبيلَ المعنى الذي يعبَّر عنه هو سبيلُ الشيء الذي يقع التصوير والصوغ فيه – كالفضة والذهب يصاغ منهما خاتم أو سوار. فكما أنه محال، إذا أردت النظر في صوغ الخاتم وفي جودة العمل ورداءته، أن تنظر إلى الفضة الحاملة لتلك الصورة أو الذهب الذي وقع عليه العمل وتلك الصنعة، كذلك محال، إذا أردت أن تعرف مكان الفضل والمزية في الكلام، أن تنظر في مجرَّد معناه" (ص 197). كما أنه "لا سبيل إلى أن تجيء إلى معنى بيت من الشعر، فتؤديه بعبارة أخرى؛ إذ إنه إذا تغير النظم فلا بد حينئذ من أن يتغير المعنى. وإن صور المعاني لا تتغير بنقلها من لفظ إلى لفظ، حتى يكون هناك اتِّساع ومجاز، وحتى لا يُراد من الألفاظ ظواهر ما وُضِعَت له في اللغة، ولكن يشار بمعانيها إلى معانٍ أُخَر" (ص 204).

بعد ذلك يتحدث الجرجاني عن تقسيم الكلام إلى ضربين: "ضرب تصل منه إلى الغرض بدلالة لفظه وحده [وهو ما يمكن أن نسميه لغة النثر]، وضرب آخر لا تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده، ولكنه يحيلك إلى دلالة ثانية تصل بها إلى الغرض؛ ومدار هذا الأمر على الكناية والاستعارة والتمثيل [وهذا الضرب من الكلام يقابل ما نسميه اليوم اللغة الشعرية]." (ص 202) وبذلك يكون الجرجاني قد استطاع التمييز بين لغة النثر العادية، ولغة الشعر – هذا التمييز الذي يكمن في أساس ثورة الشعر الحديث على نمط الشعر التقليدي.

ثم يتوصل الجرجاني إلى مصطلحه المشهور: "معنى المعنى"، حيث يقول: "إن المعنى هو المفهوم من ظاهر اللفظ. أما معنى المعنى فهو أن تعقل من اللفظ معنى، ثم يفضي بك ذلك المعنى إلى معنى آخر." (ص 203)

ثم يطرح الجرجاني مسألة شديدة الأهمية حين يؤكد أنه "لا يكون هناك كلام شعري حتى يكون هناك قصد إلى صورة وصنعة، وليس للوزن مدخل في ذلك" (ص 278). أي أن الجرجاني اكتشف عنصراً هاماً من عناصر البناء الشعري (سوف تؤكد عليه سوزان برنار في العصر الحديث)، وهو قصد الشاعر إلى التعبير الفني بالصورة والصنعة. بالإضافة إلى اكتشافه الخطير بأن "الوزن ليس هو ما يجعل الكلام شعراً، بل يمكن للكلام أن يكون شعراً بغير الوزن؛ فليس بالوزن ما كان الكلام كلاماً ولا به كان كلامٌ خيراً من كلام" (ص 364)، على حدِّ قوله، لأن "الوزن ليس هو من الفصاحة والبلاغة في شيء؛ إذ لو كان له مدخل فيهما لكان يجب في كل قصيدتين اتفقتا في الوزن أن تتفقا في الفصاحة والبلاغة". وهذا ما يؤكد ضيق أفق بعض نقادنا المعاصرين الذين يعتبرون الخروج عن الوزن خروجاً عن الشعرية، ويستندون في ذلك إلى دعواهم بالحفاظ على التراث. فهذا عبد القاهر الجرجاني يطلُّ علينا من تراثنا العربي ليؤكد على أن الوزن لا مدخل له في الشعرية.

أما عن موضوع الغموض – وهو من التهم التي يوجِّهها الذين يدَّعون الغيرة على التراث إلى شعراء الحداثة – فلعله من المفيد أن نعيدهم إلى كلام الجرجاني حول هذا الموضوع، حيث يقول: "إنك كلما زدت التشبيه إخفاء ازدادت الاستعارة حسناً، ويكون الكلام أعجب من كلام لأن عمله أدق، وطريقه أغمض، ووجه المشابهة فيه أغرب." (ص 76) كما يقول: "إن ترك الذكر قد يكون أفصح من الذكر، والصمت عن الإفادة أزيد من الإفادة؛ وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق، وأتم ما تكون بياناً إذا لم تُبِنْ." (ص 112)

بقيت مسألة هامة لابد من الإشارة إليها: إذا كان النقد الحديث في العالم اليوم مشغولاً ببحث مسألة التلقِّي، ودور المتلقِّي الإيجابي في التفاعل مع النص الأدبي، مما يُعتبَر من أحدث القضايا التي تدور حولها الأبحاث النقدية المعاصرة، فإنه سيكون من المفاجئ أن نعرف أن عبد القاهر الجرجاني قد تحدث عن المتلقِّي ودوره في كتابه هذا. إذ إن الجرجاني يقول: "إن من عادة قوم ممَّن يتعاطى التفسير بغير علم أن توهموا أبداً في الألفاظ الموضوعة على المجاز والتمثيل أنها على ظواهرها، فيُفسدوا المعنى بذلك، ويُبطلوا الغرض، ويمنعوا أنفسهم العلمَ بموضع البلاغة وبمكان الشرف." (ص 236) إذاً على المتلقِّي – ويسميه الجرجاني "المفسِّر" – أن يكون على قدر من العلم، وأن لا يفسر الكلام على ظاهره، بل أن يدرك معنى المعنى، ويتأمل مسائل المجاز والتمثيل، حتى يستطيع تلقِّي العمل الأدبي.

وأخيراً، فمن نافل القول إن عجالة كهذه لا يمكن لها الإحاطة بجميع جوانب هذا الكتاب الذي ربما كان من أهم الكتب التي تناولت مسألة الشعرية في النقد التراثي العربي. إلا أنه حسبنا أن نكون قد استطعنا التحريض على قراءته لنتأكد أن الأطروحات الشعرية الحديثة ليست منقطعة الجذور عما توصَّل إليه الفكر النقدي العربي، ممثَّلاً في أهم رموزه: عبد القاهر الجرجاني.

*** *** ***


* عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز في علم المعاني، بمراجعة وتصحيح الإمام الشيخ محمد عبده، دار المعرفة، بيروت 1981.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود