|
كونية الإنسان
ندره
اليازجي
تراودني
هذه الفكرة وأنا أتعمق في تأمل نفسي وفهمها؛
أتأملها وأتأمل الكون والجسم الاجتماعي. وفي
هذه التأملات الثلاثة أتساءل: كيف يمكنني أن
أكون كياناً شاملاً؟ وكيف يمكن للكون أن يكون
شاملاً؟ وكيف يمكن أن يكون المجتمع عالمياً؟
ولا يدهشني أبداً أن أجيب بشمول الكون، وشمول
الحياة، وشمول الكيان، وشمول الإنسان، وشمول
المجتمع، وشمول المادة والطاقة والوعي. فإذا
كانت الحقيقة السامية الشاملة كلِّيةً وغايةً
بذاتها، تتجلَّى في الكلِّ ومن خلال الكلِّ
المتكثِّر، وفي الإنسان ومن خلاله،
وفي الحياة الاجتماعية ومن خلال أنْسَنَتها،
فإن العالمية، أو الكونية، أو الشمول، أو
الكلَّ، هو المبدأ الفاعل في الكون بعامة وفي
الكوكب الأرضي بخاصة. وإذا كان الشمول هو
المبدأ الفاعل في الكون فلا بدَّ لي أن أجد
التفسير الموضِّح للكثرة أو التعدد الذي
يترامى أمام بصري وبصيرتي. ثمة تعددية في الوجود، وثمة
وحدة أيضاً. والوجود، بكل تأكيد، تعددية في
وحدة، وكثرة في واحد. والقضية الرئيسية التي
تنطرح تكشف عن ذاتها في سؤال يوجِّهه كلُّ ذي
عقل مفكِّر نيِّر: كيف توجد الكثرة في الوحدة؟
وكيف تتجلَّى الوحدة من خلال الكثرة؟ إن مفارقات الوجود وأضداده
الكبرى تبدو في حالاتها الثلاث وكأنها تشير
إلى هذه الحقيقة. وباستطاعتنا أن نوجزها في
موضوعات أو مقولات ثلاث: 1.
سلسلة
الوجود الكبرى؛ 2.
اللاتمايز
والتمايز؛ 3.
الكلُّ
الكبير والكلُّ الصغير. أولاً:
سلسلة الوجود الكبرى
عندما ننظر إلى الكون نظرة
فاحصة، تأملية وعقلية، أي تحليلية، تتراءى
لنا حقيقة، عميقة في سرِّها وكينونتها،
وممتدَّة في ذاتها إلى مالا نهاية له. وتبدو
هذه الحقيقة في تجلِّيها كأنها سلسلة مُحكمة،
تبدأ من الأدنى وتنتهي في الأعلى منغلقة على
ذاتها في دائرة. ونحن لا نستطيع تحديد الأدنى
بأكثر من قولنا إنه ما لا نهاية له في الصغر؛
كما لا نستطيع تحديد الأعلى بأكثر من قولنا
إنه ما لا نهاية له في الكبر. وبين هاتين اللانهايتين،
اللتين عبَّر عنهما باسكال بهُوَّتَي الوجود، واللتين تلتقيان لتشكِّلا
دائرة، أو
حلقة دائرية، ينغلق فيهما الوجود على ذاته،[1] تبدأ سلسلة
الوجود الكبرى، وترتقي أدنى الظاهرات أو
المعالم إلى أعلاها. وفي ارتقائها هذا
تتدرَّج، بتماسك حقيقي واتصال لا يعرف
الانفصال، بحيث تعبِّر، من خلالها، كلُّ
ظاهرة عن وجودها بالأخرى. ولا نبالغ إذا قلنا
إن هذه السلسلة شبيهة بالعقد الذي يجمع
حبَّاته الكثيرة المتنوعة خيطٌ يعرف الوحدة
والتماسك. ونجد هذه السلسلة في الترتيب أو
الترتيبات التي تنطلق فيها المادة من أدنى
مستوياتها في التأليف إلى أعلى مستوياتها في
التأليف. يدلُّنا هذا التسلسل الذي
لا يعرف الانقطاع، في أية حلقة من حلقاته، على
أن الوجود وحدة متراصَّة في كلِّ عناصره، وفي
ترتيباته المنتظمة التي تنطلق من متعضِّياته
الأدنى لتصل إلى الإنسان، وفي تنظيماته أو
مستوياته الكونية المادية، لتنطلق من أصغر ما
في الكون إلى أكبر ما في الكون. ويدلنا هذا
الوضع على وجود كثرة في وحدة، وعلى وجود وحدة
من خلال الكثرة. ثانياً:
اللاتمايز والتمايز
كيف ندري إن كانت الحياة
الأرضية قد بدأت بالتمايز أو أنها كانت
لاتمايزاً متجانساً؟ إن علماء، أمثال جان
روستان وتيار دو شاردان، يعتقدون أن جميع
الأشياء قد انطلقت من حالة لاتمايز متجانسة
عُرِفَت بأنها عجين، أو دقائق أو حبيبات
متناهية في الصغر، أتت منها الخمائر المتنوعة
لتشكل الأنواع المختلفة والمتعددة. فكلُّ ما
نراه في الكون، وعلى الأقل على كرتنا الأرضية
هذه، ليس إلا عجيناً واحداً، أو خلية واحدة،
مادة أولية تمايزت إلى عدد كبير جداً من
الموجودات عُرِفَت بالأنواع. وإذا كانت هذه التمايزات
الظاهرية العديدة قد انبثقت من حالة
لامتمايزة، لكنها متجانسة، لتعود وتلتقي في
الإنسان بعد مرورها عبر التمايزات العديدة،
فإنها تُتَضمَّن في حقيقة واحدة تُعرَف
بالكثرة في الواحد. ثالثاً:
الكلُّ الكبير والكلُّ الصغير
إذا كان الوجود، في أكبره،
أو في لانهايته الكبرى، يشتمل على ذاته في
لانهاية[2] صغرى فكلُّ ما
نراه في الكون الأكبر نراه أيضاً في الكون
الأصغر: لا شيء في النظام الشمسي إلا ويوجد في
الكلِّ الصغير. هنا نتساءل: ما هو الكون
الأصغر Microcosm؟
هل هو جزء من هذا الكل؟ أم هو الكلُّ المنغلق
أو المنطوي على ذاته في حركة داخلية، كالنقطة
التي هي تصغير الدائرة، أو انغلاقها على
ذاتها؟ لا يُعَدُّ أصغر ما في الكون
جزءاً، بل اختصار لما هو أكبر وتكثيف له، وذلك
لكي تتم عملية الحياة. والحق أن هذه العملية
لا تنقسم، بل تتقلص إلى حدودها الدنيا. فكلُّ
ما يقع بين هذا الحدِّ الأدنى من الوجود –
الكون الصغير، عالم الصغير – وبين الحدِّ
الأكبر والأعلى – الكون الكبير، عالم الكبير
– هو سلسلة الوجود الكبرى التي تنتظم في
مراتب متلاحقة ومتماسكة ومتجانسة، تتنوع ضمن
حقيقة واحدة.[3] هكذا نشاهد الكون، في
اتساعه وامتداده إلى ما لا نهاية له، كامتداد
كل كوكب بين قطبيه، ليعبِّر عن وحدة متماسكة
بين أنماط النظام الواحد، بين ما هو أكبر وما
هو أصغر، بين النظام الواحد الكلِّي والأنظمة
العديدة المتضمَّنة فيه، ليكون التعبير عن
أحدية تفيض في تعدد كثير وتنبثُّ فيه، يتشعب
بدوره، حتى يعود ويلتقي في أحدية، تعبِّر
الأولى عن ألف الوجود وتعبِّر الثانية عن
يائه. ولعلَّ نظرية التطور ترينا
مسيرة الكون، على مستوى الكرة الأرضية على
الأقل، انطلاقاً من حالة اللاتمايز
المتجانسة، إلى حالة تمايز هائل، تتفرَّع،
وتتفرع، سائرة في ترتيباتها العديدة، وفي
تشعُّباتها، حتى تلتقي أخيراً في الإنسان. في المادة الأولى، أو
الخلية الأولى، ينطوي الكون على ذاته كما
ينطوي الإنسان في خلية داخل رحم أمه، وكما
تنطوي الشجرة في بذرتها. ومن بعدُ تنتقل هذه
الخلية إلى حالة التمايز إلى شتى الأنواع. عند
هذا الحد يبدو الوجود وكأنه تنوع أو تشتت غير
محدود؛ لكنه، بعد مسيرة طويلة، تبدأ الأنواع
في عملية جديدة، هي سيرورة لقاء أو تلاقٍ، أو
عملية تضييق على تمايزاتها، فتسير باتجاه
المزيد من التلاقي، لتجتمع أخيراً في الإنسان. هكذا يعود الكون، مرة أخرى،
ليلتقي في الإنسان بعد أن عرف حالة التمايز
والتنوع. وبظهور الإنسان – وهو
الملتقى الجديد لتمايز كبير – تبدأ حركة
جديدة من التمايز، ذلك لأن الجنس البشري
يتذرَّى، فتتشكل الأنواع. ويبدو الأمر وكأن
الحياة، في المادة وفي الإنسان، لا تلتقي عند
نقطة، ولا تعرف الوحدة بظاهرها. لكن هذا التمايز يعود، مرة
أخرى، ليجد طريقه إلى الوحدة. وليس طريقه هذا
غير اجتماعية الإنسان. ولما كانت الكرة
الأرضية منحنية، أي دائرة مغلقة، فإن التلاقي
في الاجتماعية أمر محتَّم وضرورة وجودية كبرى.
فالأنواع تلتقي بالفكر، وتتصل الحضارات
بعضها ببعض، وتتنامى العلوم وتتطور، وتتحسن
طرق المواصلات والمعلومات والنقل، ويزداد
العالم الأرضي تلاحماً، وكأن شعوراً واحداً
يحتويه، أو كأن روحاً واحداً يُحييه، وذلك في
سبيل تكوين نطاق اجتماعي يلتقي فيه الإنسان
مع الإنسان. وهكذا يعود التمايز النوعي إلى
الالتقاء في إنسانية الإنسان واجتماعيَّته،
وتسير الكثرة النوعية إلى غايتها التي تُعرَف
بشمول أرضي كوكبي، ليحقق لقاء الإنسان مع
الإنسان. وفي حالة الإنسان هذه نرى
كيف يتفاعل الإنسان مع الكل. ففي جسمه يتم
اللقاء بينه وبين الكون في عملية مباشرة، في
تواصل مباشر، هو حدس مباشر. إنه يتحد مع الكون
المادي من خلال طعامه وشرابه وتلاؤمه مع
البيئة؛ ذلك لأنه يشكل مع الكون المادي
كياناً واحداً؛ ويتحد مع الغلاف الغازي في
تنفسه ويتفاعل معه؛ ويتحد مع النور والحرارة
والأشعة الكونية الأخرى؛ ويتحد مع الإنسان في
أنواعه الإنسانية العديدة ليمتد في نفسه، وفي
صورتها الاجتماعية والكونية، إلى ما لا نهاية
له. ويفكِّر الإنسان في وجوده وحقيقته، وهو
يتأمل الكون في كلِّيته وشموليَّته، ويسعى
إلى توطيد اتصال جواني معه. وهكذا يكون
الإنسان هو النقطة – الشبيهة بنقطة الدائرة
حيث تلتقي الدائرة كلُّها – أو البؤرة التي
يلتقي الكون كلُّه فيها، والمجتمع الإنساني
كلُّه أيضاً. عندما نتوصل إلى نتيجة
مجردة ونظرية كهذه نلتزم بطرح السؤال التالي:
كيف تكون المستويات التي تتحقق فيها عالمية
الإنسان وشموله إذا نحن أخذناها من النواحي
أو الأبعاد الاجتماعية والإنسانية والعلمية
والفكرية؟ أولاً:
البعد العلمي
في القديم قال فيثاغوراس
والفيثاغوريون إن العالم نغم ورقم – نغم هو
موسيقى، ورقم هو عدد. تشير هذه الحقيقة إلى
مبدأ الانسجام والتناغم والتوافق والتناسق.
فالكون، في خبرة فيثاغوراس، موسيقى تنسجم
أنغامها وتتوافق. لذا لا يخرج هذا الكون عن
إطار معقولية الوحدة. فهو، في شموله وتعدده،
وحدة قائمة بذاتها؛ وليست أجزاء الكون
الظاهرية غير أنغام الموسيقى التي تتساوق في
انسجام. وهكذا يكون الكون نغماً. لكن
فيثاغوراس وتلامذته تكلَّموا على الكون من
حيث كونه رقماً. فكما تتسلسل الأرقام وتتعدد
انطلاقاً من الواحد، لتعبِّر عن وحدة متماسكة
تعود فتجد ذاتها في الواحد، كذلك تتصل في
أحجامها الكبرى واتساقاتها، لتشير إلى حقيقة
واحدة تُحِلُّ حقيقةَ الكون فيها، وتتماسك
أجزاؤه أو تتداخل. ويحاول العالِم وضع قانون
واحد للكون تُتَضمَّن فيه جميع القوانين.
فللكون، لمن يستطيع الاستماع إليه لو أتيحت
له نقطة خارج النظام الشمسي أو غيره، موسيقى
تنشأ عن النِسَب الرياضية القائمة بين
الكواكب أو الواحدات وهي تدور بعضها حول بعض.
وهكذا يكون الكون اهتزازاً، وتكون المادة
درجة من درجات هذا الاهتزاز. والمادة المهتزة، كما يشير
إليها العلم، بصفاتها العديدة – الكيميائية
والفيزيائية والبيولوجية – تعبِّر عن وحدة
شاملة. فما الظاهرات إلا تناسقات وأنساق ضمن
الوحدة الأصلية. فكأن الكون لوحة من
الفسيفساء تشغل فيه كلُّ قطعة مكانها في نظام
واتساق. هكذا تعبِّر الظاهرات عن تضادٍّ
ظاهري ووحدة داخلية. الكون امتداد، وليس
تناقضاً؛ وثنائياته وأضداده لا توجد إلا من
حيث الظاهر وحسب. وهكذا يستطيع العلم أن
يتلمَّس الحقيقة الواحدة، الشاملة
والعالمية، من خلال الظاهرات العديدة. فهو،
في كل عملية استقراء، يحدس القوانين الكلِّية
الشاملة. وقديماً قال أرسطو: "لا علم إلا
بالكلِّيات." لذا نستطيع أن نضع ضمن قائمة
العالميين أفذاذاً كفيثاغوراس، وأفلاطون،
وإخوان الصفا، وجيوردانو برونو، وأينشتاين،
إلخ. أولئك جميعاً تكلموا بلغة العالمية،
وشادوا صرح الشمول عندما درسوا القوانين
الكونية. في عالم العلم هذا يرتبط
الجزء الصغير بالكل؛ وذلك لأن إطار الحقيقة
واحد. فالجسم الإنساني، بتعدد أجزائه وأجهزته
وأعضائه، وحدةٌ متماسكة، شاملة وكلِّية.
وتتعذر دراسة الجزء أو العضو على حدة؛
وتُخفِق الدراسات التي تعتمد هذه الطريقة لأن
الكثرة الجسمانية، والأعضاء كلَّها، واحدة
في عملها وجوهرها، وكلُّ عضو يمتد إلى الكلِّ
ويحيا في الكلِّ ومع الكلِّ وبه. ثانياً:
البعد الفكري
يصعب علينا أن نفرق بين
البعد العلمي والبعد الفكري؛ فكلاهما كلِّية
شاملة. فكما أن العلم يبحث في القوانين
الشاملة، ويسعى إلى اكتشاف الكلِّ في الأقسام
والتعددات، كذلك يبحث الفكر في الكل. فما يراه
الإنسان من تعددات وكثرة ليس إلا حقيقة واحدة.
من هنا أتساءل: كيف أستطيع رؤية ألوان الشمس
ما لم تنعكس على الكرة الأرضية وتتشتت في
فضائها؟ فالنور لا يكشف عن ألوانه إلا في
انعكاس تعدد ألوانه، ليكون التعدد، في
النهاية، نوراً واحداً. والحياة لا تكشف عن
ذاتها إلا في التعدد والكثرة. ولما كان كلُّ
ما هو موجود ينبض بالحياة كانت هذه الحياة
خلفية الكلِّ وجوهره أيضاً. كيف أستطيع أن
أفكر في الوجود، مهما بدت لي ظاهراته
متكثِّرة، إلا ككلٍّ واحد؟ وكيف أستطيع أن
أفكِّر إلا ككلٍّ غير منقسم؟ هكذا تتجلَّى الحياة،
والنور، والوجود كلُّه، والفكر كلُّه، في
الشمول والعالمية. وكلُّ عملية تجريد عقلية
تقودني إلى الكلِّية المطلقة، انطلاقاً من
نسبة ظاهرية، أو من أضداد، أو ثنائيات، أو
نقائض لا توجد بمعزل بعضها عن بعض. وإذا ما
أخذنا مفهوم التجريد بعين الاعتبار أدركنا
أنه يفضي بنا إلى الشمول والعالمية. ولو
تساءلنا عن حقيقة البياض والصفرة والحمرة إلخ
لوجدناها تجريدات مطلقة، هي انعكاسات النور
المتعددة، في وحدة قائمة بذاتها. وإن أنا
تحدثتُ عن الثلج تساءلتُ: كيف أستطيع إثباته
ما لم أقل إنه أبيض؟ وكيف يمكن للعقل الإنساني
أن يتقبَّله أو يتصوره ما لم يكن أبيض؟ وإذا
أضفنا إلى هذه الحيرة مسألة البياض ذاتها
لوجدنا أننا لا نتحدث إلا في التجريد والمطلق.
ولا شك أن قول برغسون بأننا نحيا في المطلق
صحيح إلى حد بعيد. ثالثاً:
البعد الإنساني
لا يسعنا أن نبحث مسألة
الإنسان إلا من ناحيتين: أ.
الإنسان الفرد؛ ب.
الإنسان الاجتماعي. كيف أستطيع أن أتصور
الإنسان الفرد؟ أين يوجد هذا الإنسان؟ وإذا
أقمنا مقارنة بينه وبين الجسم نسأل: كيف
يمكنني أن أتصور القلب، أو الدماغ، أو عضواً
من الأعضاء وحده؟ هل يوجد عضو بمفرده؟ وما هو؟
وكيف يكون؟ من هو الإنسان الفرد؟
الإنسان الفرد، في الواقع، غير موجود. وهذا
لأن البشرية بدأت بجماعة ولم تبدأ بفرد.[4]
وهكذا نعلم أن الفرد غير موجود. وإن وُجِد هذا
الفرد فما هو؟ وما فكره؟ وما أخلاقه؟ وهل يكون
للفرد تفكيرٌ في حالة فردانية؟ وهل تكون لديه
قيمٌ ومُثُل وغايات؟ لما كان تعذُّر وجود الفرد
قائماً فإن الإنسان الاجتماعي هو أصل الفكر
وأصل الإنسانية. فلا شمول إلا في الإنسانية،
ولا عالمية إلا في الحياة الاجتماعية. تتكشف لنا أهمية موضوعنا
هذا عندما نلقي على أنفسنا الأسئلة التالية:
كيف يكون الإنسان في حالة فردانيَّته؟ أيكون
صادقاً أم كاذباً، مراوغاً أم مستقيماً،
متكبِّراً أم متواضعاً، مستغلاً طامعاً أم
منصفاً عادلاً، محباً للحق أم ميالاً إلى
الظلم، جاهلاً أم عارفاً، واعياً أم غير
واعٍ، عاملاً أم خاملاً، إلى ما هنالك من قيم
ومفاهيم. والحق أن الجواب يستقيم متى علمنا أن
هذه القيم غير موجودة إلا في الحياة
الاجتماعية. ليس للإنسان إنسانية، إذن، إلا
في الوجود الاجتماعي الذي هو حقل تحقيق
إنسانية الإنسان. ونحن، على سبيل المثال، لو
ألقينا نظرة على أنواع الوجوه البشرية،
بتعدداتها وتمايزاتها، لعلمنا أن هذه الكثرة
دليل على الوحدة أكثر منها دليلاً على
الاختلاف والتباين. إن وجوه الآخرين تدلُّني
على حقيقتي؛ فلولاها لما عرفت نفسي. لذا لا
تحمل الوجوه سمات التناقض، بل التكامل.
فالإنسان، في تعدد وجوهه، واحد. وعلى سبيل
المثال، لو نظرنا إلى أنواع الإنسان لوجدنا
تناقضاً ظاهرياً؛ لكننا، متى تعمقنا، وجدنا
وحدة الهوية. فكأن الإنسان، بأنواعه وكثرة
أفكاره، يلتقي في دائرة واحدة تتشعب منها
شعاعات كثيرة تعبِّر عن حقيقة واحدة. وإذا ما
نظرنا إلى أنواع الأفكار لوجدناها عديدة،
إنما تجتمع في وحدة جوهرية في الإنسان. وإذا
ما تفحَّصنا الكرة الأرضية، بتنوعات
تضاريسها وأقاليمها، للاحظنا كثرة متنوعة
تتآلف في وحدة. فكأن الحقيقة الواحدة
والعالمية والشمول لا تتحقق إلا من خلال
الكثرة. لذا لا أخشى التعدد لأنني أعتبره
معالم حقة تتداخل في الوحدة وتتواشج. إن عالمية الإنسان تتحقق
على صعيدين: الصعيد الاجتماعي الواحد في
الوطن، والصعيد الاجتماعي العالمي والإنساني.
ففي المجتمع الواحد يتَّحد الأفراد ضمن حقيقة
واحدة خالية من كافة ضروب التعصب العرقي
والمذهبي، ويرى كل إنسان ذاته في الآخر.
فالإنسان يمتد في الإنسان. ولا يكون خلاص هذا
الإنسان إلا في الإنسان الآخر ومن خلاله. فكل
إساءة تبدر مني نحو الآخر تُعَدُّ إساءة
للإنسانية جمعاء؛ وكل محبة تصدر مني نحو
الآخر تُعتبَر تضحية للإنسانية جمعاء، لأن
الإنسان يشتمل على الإنسانية كلِّها – الناس
كلِّهم – في كيانه الخاص. وعلى الصعيد
الاجتماعي العالمي والإنساني يعمل الإنسان
على وضع قواعد العدالة والمحبة والمساواة
التي هي مفاهيم مطلقة للجميع، لا يُنكِرها
إلا المتزمتون، لأنها شاملة وعالمية. يجدر بي، في هذا المجال، أن
أبيِّن أن اجتماعية الإنسان تختلف، بجوهرها،
عن تجمُّع الحيوان. فللحيوان حياة تجمُّعية،
هي فردية مكررة، لا تدرِك ذاتها في إطارها
الفردي أو الجماعي. أما اجتماعية الإنسان فهي
انعكاسه في الآخر، وامتداد إلى مالا نهاية في
هذا الآخر. فالإنسان لا يجد نفسه إلا في
الآخر، ولا يكون لوجوده من معنى إلا في
الإنسانية الشاملة. ففي اجتماعية الإنسان
تحقيق للغاية التي وُجِدَ من أجلها. ترينا اجتماعية الإنسان كيف
أن الأنواع البشرية تجتمع في بؤرة واحدة،
تلتقي في نقطة واحدة هي الأنْسَنَة humanization.
ففي أنحاء العالم كلِّه مبادئ تسعى إلى
التحقيق. وقد أصبح العالم وكأنه يتجه إلى
إنسانية أسمى، إلى عالمية أرقى، وذلك من خلال
وعي ذاته في الإطار الاجتماعي ببعديه الوطني
والدولي. وكما قلت سابقاً فقد تجمَّعت عناصر
الطبيعة العديدة في وحدة هي الإنسان – ظاهرة
الوجود الأرضي الكبرى. وما عاد الإنسان
ليتوزع مرة أخرى في أنواع إلا لتلتقي هذه
الأنواع في وحدة إنسانية شاملة تامة. عند هذا الحد من التأمل يجب
علي أن أذكر بعض المعالم التي تجعل مني كائناً
شاملاً؛ كما ينبغي علي أيضاً أن أذكر بعض
المساوئ والعقبات التي تحول دون تحقيق شمولي
وعالميَّتي. من خلال شخصيتي أرى الوجود
المتمثل فيَّ. فالشخصية تناقض الفردية. في
الشخصية تكتمل إنسانيتي، وعالميَّتي،
وكونيتي، وأنفتح على الكل؛ وفي فرديتي تموت
إنسانيتي وعالميتي (لأن الشخصية إنسانية،
بينما الفردية أنانية). ومن خلال مهنتي، إما أن أكون
شخصاً، وإما أن أكون فرداً. فإن لامستُ العالم
كلَّه في مهنتي، فجعلت منها وسيلتي للاتصال
مع الكلِّي، كنت إنساناً عالمياً وكونياً.
وإن خدمت العالم كلَّه في مهنتي، حققتُ
شخصيتي وكياني اللذين يمتدان إلى الكل. أما
إذا جعلتُ من مهنتي وسيلة لتحقيق فرديَّتي،
وصرت فرداً يعيش ضمن قوقعة الأنانية، فإن
عالميَّتي تموت وأنانيتي تنبثق. من خلال عملي – أياً كان
عملي – تظهر عالميَّتي في أعلى مراتبها وأجلى
صورها. فإن جعلتُ من عملي نقطة لقاء يجتمع
فيها الكل، أو عاينت الكلَّ فيها ومنها،
رأيتُ الإنسانية جمعاء وحققت العالمية. هكذا
ينبغي علي أن أربط عملي أو مهنتي أو فكري
بالوجود الكلِّي، بالغاية القصوى،
بالإنسانية كلِّها، بالمجتمع كلِّه. فإذا
تطابق عملي مع الغاية من الوجود، مع القوانين
الكلِّية، ومع اجتماعية الإنسان، كنت
عالمياً وكونياً. وتظهر عالميتي بأجلى مظهرين
لها: الفهم والتطبيق؛ فهم الوجود والغاية
منه، وممارسة هذا الفهم وتينك الغاية في
التطبيق العملي. ولما كانت غايتي من الوجود هي
المعرفة، وكان وجودي الاجتماعي تحقيقاً
للغاية التي من أجلها وُجِدْتُ فإنني أضع
نفسي في خدمة الإنسانية، لأمتد فيها، فأحقق
وجودي، أي عالميتي وكونيَّتي. فأنا كائن
وُجِدْتُ لأحقق أنبل ما في الكون. لذا، عندما
أدرس أعماق هذا الكون وأسرار المعرفة
المكنوزة فيه، أجدني أنادي بأمر واحد هو:
الانسجام مع الكون في غاياته الكبرى التي
أعبِّر عنها باجتماعية الإنسان، وبعالمية
الرؤية، وبالتجسيد العملي لها. عالميَّتي هي أن أجعل من
نفسي إنساناً يحقق عمق وجوده. وعالميَّتي هذه
تشير إلى صلة كل عمل أقوم به، أو كل فكرة أفكر
فيها، بالعالم كلَّه. فإن انسجمت مع الأعداد
الغفيرة من الناس كما تنسجم أعداد فيثاغوراس
وأنغامه في وحدة متماسكة كنتُ عالمياً في
أعماقي. وبهذا الشأن يؤلمني أن أقول إن
العقائد الكثيرة التي طُرِحَت في حقل التحقيق
كانت مجتمعية وتجمُّعية أكثر منها اجتماعية؛
الأمر الذي جعل منها تبلوراً زائفاً
للإنسانية. عندما أحيا عالميَّتي هذه
أراني قد تجردت من كل أنانية. ففي عالميَّتي
أكون خادماً لغيري، محباً له؛ لا أستثمره
وأستغله، ولا أتكبر عليه؛ لا أنبذه أو
أهمِّشه، ولا أكرهه أو أحقد عليه. ذلك أني أرى
الآخر فيَّ، وأرى نفسي في الآخر. وعندما أعكس
عالميَّتي هذه أراني في قلب الوجود والحياة
الاجتماعية، أفعل فيها بطاقة تُحَثُّ على
الدوام من أجل إعلاء قيمتهما في الإنسان –
ظاهرة الوجود الأرضي الكبرى، أو الطبقة
المفكرة Noosphère،
كما يدعوها تيار دو شاردان. ليتني أستطيع أن أرى عالمية
الحياة الإنسانية كما أراها في عالمية
القانون العلمي. ففي جميع العلوم تتآلف
القوانين والمبادئ والنظريات ضمن حقيقة
واحدة وتطبيق واحد. ويبرهن هذا التآلف على
وحدة العقل البشري، وعلى وحدة الحقيقة
العالمية. لذا لا تستقيم اجتماعية الإنسان ما
لم ينسجم الإنسان مع قانون وجوده الكوني،
فيطرح عنه كل ما يعيقه عن تحقيقه. لقد تعلَّمت
من فلاسفة العالمية وحكمائها أن تحقيق
الإنسانية يتم، كما يقول عمانوئيل كنْط، في
تحقيق سلوك إنساني يطبَّق على الكلِّ في
قاعدة عامة. *** كما أن الإنسانية جامعة
شاملة كذلك هو الإنسان. وشمول الإنسانية يجعل
البشرية جمعاء أسرة كبرى تنضوي في كنف المحبة
والكل الشامل؛ فإذا الناس جميعاً أخوة
يجتمعون في الحقيقة السامية وفي الإنسان.
والناس جميعاً "إنسان كبير" (إخوان الصفا)،
بوجود واحد، وصور كونية متعددة من حيث الشكل.
إن تعليم المحبة هو أن شمولها العالمي،
الإنساني الجامع، إنما يرتكز على قانونها
الأعظم: جميع الناس، على اختلاف أعراقهم
وألوانهم وأممهم وثقافاتهم، يؤلِّفون جسماً
واحداً – مادة واحدة، وروحاً واحدة لا تتناقض
بذاتها. المحبة مبدأ يتجاوز كل
المبادئ الأخرى لأنها شريعة الوجود الكلِّي.
فالحقيقة السامية–المحبة تجمع الكون كلَّه
فيه. لذلك تحيا العوالم كلُّها، بعضها مع بعض،
في سكينة الحقيقة السامية. هكذا تتماثل
المحبة مع الجاذبية في لغة العلم: هي جاذبية
الخلية للخلية، والذرة للذرة، والجوهر
للجوهر، والنوع للنوع، والكواكب للكواكب،
والإنسان للإنسان. هي، إذن، تماسك الوجود،
وتناغمه، بعضه مع بعض، في كلٍّ متَّحد. ولولا
هذا الملاط – ملاط المحبة–الجاذبية –
لتنافرت العناصر وانفرط عقد الكون والوجود. تتحقق الإنسانية في شعور
الإنسان بشموله وكونيَّته. ولما كان الإنسان
الواحد قد وُجِد بأنواع عديدة في جميع أنحاء
العالم فإن فكرة عالمية الإنسان تتخلل جميع
الأمم والشعوب في إنسانية الإنسان. وليست
الإنسانية إلا إنسانية هذا الإنسان وصورته
المجردة في الأنواع الإنسانية. أما الإنسان
المشخَّص الواقعي فهو الإنسان الكائن الحي
العاقل الذي يهدف، من خلال تنوعه وتعدده، إلى
غاية واحدة. إن آمال الإنسان وتطلُّعاته
المتصاعدة من أنحاء العالم كلِّه تشير إلى
وحدة الوجود الإنساني وإلى تحقيقه في شعور
واحد متكامل. إن عالمية الإنسان مبدأ
يحثنا على احترام الإنسان وتقديره وإعلاء
شأنه. ويتجلى هذا الاحترام والتقدير في
المبادئ التالية: أولاً: إن كنا نعتبر الإنسان
ثمرة تطور الوجود الأرضي فإنه لا يحق لنا أن
نقلل من أهمية وجوده. إن غرس الشجرة والعناية
بها يشيران إلى غايتها. وتتجلَّى هذه الغاية
بثمرة هي نتاج وجود الشجرة. لذا يُعَدُّ
القضاء على الشجرة اعتداء فاضحاً لأن الغاية
التي من أجلها وُجِدَت الشجرة تنعدم. وينطبق
هذا المثل على حقيقة الإنسان وواقعه؛ إذ لقد
صرفت الطبيعة أحقاباً زمنية مديدة لإثماره. ثانياً: إن كنا نعتبر
الإنسان رمزاً للوعي الكوني غير المحدود فإنه
يستحق التكريم والتقدير. فالإنسان الذي يحيا
ضمن دائرة الوجود يتجاوز المحدود. وليس شعوره
باللامحدودية غير دليل على لامحدوديَّته. لذا
يخرج الإنسان بهذا الشعور عن نطاق الوجود
المحدود. ثالثاً: إن كنا نعتبر
الإنسان مثالاً شاملاً لوجود البشر أجمعين
فإن كل إهانة تُلحَق به تُلحَق بالجنس البشري
أجمع. إن احترام الإنسان يعني احترام
الإنسانية كلِّها، والعناية به تعني العناية
بالبشرية كلِّها. ولما كانت محبة الإنسان
الواحد تشير إلى محبة الإنسانية جمعاء فإن
هذه الفكرة تستحق بذل كلِّ جهد لتحقيقها. رابعاً: إن كنا نعتبر
الإنسانية متنوعة في لونها وعرقها، في فقرها
وغناها، في أقطارها وتقسيماتها الجغرافية،
فلا يحق لنا استغلال الآخرين أو كرههم لأن
التنوع يشير إلى التكامل، لا إلى التناحر. وإن
كنا نعتبر أناساً أفضل من أناس آخرين، لأسباب
تتعلق بالمعيشة أو البيئة أو اللون أو العنصر
أو المعتقد، فإن الإنسان، في رحلة حياته
الأرضية، يمر في هذه الأطوار كلِّها. وإن هو
احتقرها في غيره فإنما يحتقرها في نفسه: إن
كنت أعتبر غيري عبداً فأنا عبد مثله في مجالات
عديدة؛ وإن كنت أعتبره زنجياً فأنا أكثر
سواداً منه في داخلي؛ وإن كنت أعتبره فقيراً
أو متخلفاً فأنا أفقر منه وأكثر تخلفاً في
مجالات شتى. إن محبتي للإنسانية تدفع بي إلى
تجاوز كل ما أعتبره عائقاً أو فاصلاً بيني
وبين الإنسان، أيِّ إنسان. خامساً: إن كنا نعتبر
الإنسانية تسعى إلى غاية فلا يحق لنا أن نعمل
لتثبيت التفرقة العنصرية والانقسام
الإقليمي؛ وهذا لأن الغاية تشير إلى تلاقي
الأهداف التي تتفرع من الغاية الأصلية. ولا
تتحقق هذه الغاية إلا بالمحبة. إن عالمية الإنسان، كونه
ينتمي إلى عالم واحد، والأخوة الإنسانية، لا
تتعارضان مع اجتماعيَّته، كونه ينتمي إلى وطن.
فالإنسان شبيه بالبؤرة التي تشع في اتجاهات
ثلاثة: أ.
من
كيانه إلى ذاته؛ ب.
من
كيانه إلى المجتمع الذي ينتمي إليه؛ ت.
من كيانه إلى العالم. في البؤرة الأولى يشع
الإنسان وفق قاعدة فطرية تعبِّر عن ناموس
كوني، غير مكتوب باليد، نُحِتَ فيه منذ الأزل.
وتُعتبَر هذه المرحلة أهم المراحل الثلاث
جميعاً؛ وذلك لأن الإنسان الجوهر، المجرَّد،
لا يسعى إلى الغايات النبيلة ما لم تكن كامنة
فيه أصلاً. لذا كان عليه أن يحققها أولاً. ومتى
حقق الإنسان معنى وجوده والغاية منه سعى إلى
إشعاعه في البؤرة الثانية التي هي المجتمع.
ففي إشعاعه باتجاه المجتمع يحقق الغاية من
وجوده في مجالين: المجال الشخصي – إنسان
الماهية والجوهر، وفي المجال الاجتماعي –
إنسان الواقع والتحقيق. أما البؤرة الثالثة
فإنها تتجلَّى في موقف إنساني يتجاوز حدود
المجتمع إلى الإنسانية بعامة، وإلى الكون
ولانهايته. ويُعتبَر هذا الإشعاع تحقيق
لإنسانية الإنسان، وهو يشعر بانتمائه إلى
العالم كلِّه. الإنسان في هذه المراحل
الثلاث، التي تعبِّر عن مثال واحد هو إنسانية
الإنسان ومركزيته الكونية، يشبه الخلية التي
تمتلك نصفي قطر: نصف قطر يشع لذاته لكي تشكِّل
ذاتها، ونصف قطر آخر مشعاً تمدُّه إلى الخلية
الأخرى، التي هي الآخر – أي الإنسان الآخر –
لكي تشكِّل وجوداً، وتمتد إلى العضو لكي
يتمَّ به المجتمع ويكتمل. هكذا تمثِّل
الخليةُ الإنسانَ، ويمثل الامتدادُ الآخرَ،
ويمثل المجتمعُ العضوَ. وليس من شك أن العضو
جزء ملتحم مع مجموعة تدعى الجسم، أي الكل؛
وليس هذا الكلُّ غير الإنسانية. ومع ذلك، يبرز
تشكُّل العضو إلى الوجود لأنه يغلِّف ذاته
بذاته بسبب تفاعل الأفراد، أي الخلايا، في
الوحدة الأساسية. لذا يقتضي الواجب خدمة
المجتمع أولاً، والعالم ثانياً. والحق أن خدمة المجتمع
والمحبة التي نضفيها عليه لا تتناقض مع خدمة
العالم ومع المحبة التي نكنُّها للإنسانية
جمعاء. فالمجتمع، في صورة الأمة أو الوطن،
والعالم، في صورة مجموعة الأمم أو الأوطان،
يتلازمان ويتكاملان في تقويم الإنسان كوجود
عالمي، شامل وكليٍّ، يتجاوز الحدود والأمكنة
والأزمنة إلى العالمية والكونية، وإلى
الإنسانية والشمول... وفيهما يلتقي الزمان مع
الأبدية. ***
*** ***
[1]
لما كنت من المتأثرين بالعقيدة الثيوصوفية
فإنني أحب أن ألفت انتباه القارئ إلى كلمة
"ذات" التي ترد كثيراً في كتاباتي وأن
أشير إلى أن المعنى الذي أضمِّنه إياها
يتوافق مع هذه العقيدة. تتكلم هذه العقيدة
على وجود ذاتين في الإنسان: "الذات" Self،
وتعني مبدأ الوعي الكائن في الإنسان
وخارجه، أي انعكاس الحقيقة المطلقة
السامية في الإنسان والوجود؛ و"الأنية"
ego،
أو "الذات الصغرى"، وتعني "الأنا"،
أي المبدأ المنغلق على ذاته الذي يتطلب
إدراك حقيقته ليفهم مبدأ الوعي المتضمَّن
فيه. [2]
تقلُّص الكلِّ بفعل ذاته يشير إلى كثافة
الروح في المادة: المادة روح كثيفة. [3]
الكون نسيج واحد متداخل الحياكة. [4]
هذا ما أثبتته الدراسات الأنثروبولوجية
بوجه عام، والدراسات الباليونتولوجية بوجه
خاص.
|
|
|