المطلوب "انتفاضة" شاملة

على أسس ومنطلقات جديدة

الانتفاضة والمقاومة اللاعنفية

 

ديمتري أفييرينوس

وأكرم أنطاكي

 

 

"الموت ينال أولاً من الذين يركضون." (لاوتسه)

 

"إذا لم نتمكَّن من إيجاد سبيل إلى تعاون شريف وإلى مواثيق شريفة مع العرب فنحن إذن لم نتعلَّم شيئاً على الإطلاق إبان 2000 عام من العذاب ونحن نستحق كل ما سوف ينزل بنا." (ألبرت أينشتاين، من رسالة إلى حاييم وايزمن، مؤرخة في 25 ت 2، 1929)

 

نحب، قبل أن نسوق هذه الملاحظات على الأحداث المأسوية الجارية في فلسطين، أن نؤكد أن ما من أحد في أسرة معابر يرى في اللاعنف "بديلاً عن المقاومة"؛ إذ شدَّد جميع المتحاورين تقريباً في معابرنا على أنه "سلاح" بديل عن العنف المسلَّح الاعتباطي. إنما الفارق بينه وبين هذا الأخير هو أن الوسيلة فيه لا تنفصل عن الغاية (أو هكذا ينبغي أن يكون الأمر، على افتراض الإخلاص وصدق النية) – لا بل إن الوسيلة فيه، بحدِّ ذاتها، هي الغاية.[1]

*

قبل الكلام على مقاومة الاحتلال الإسرائيلي للأرض العربية (وهي جزماً حقٌّ مشروع للشعب الفلسطيني وارد في كلِّ المواثيق والقوانين الدولية)، لا بدَّ من الاعتراف بأن المجتمع العربي، من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، ما زال يفتقر إلى المقوِّمات الأساسية لمفهوم المواطَنة citizenship، بواجباتها وحقوقها. خارج إطار ما يجري في الأراضي الفلسطينية المحتلة وفي إسرائيل، نحن نعتقد أن أي نضال من أجل التضامن العربي أو الإنساني، وبصفة أخص من أجل دعم الشعب الفلسطيني وحقوقه السليبة، لا بد أن يمر من قنوات حقوق الإنسان والديمقراطية والمجتمع المدني – "البرنامج البنَّاء" Constructive Program الذي قدَّمه غاندي على كافة مناهج مقاومته السلمية للإنكليز والذي كان العامل الحاسم في إجلاء الأمريكيين من فييتنام.[2] إذ لا يقدر أن يطالب بحقوق الشعب الفلسطيني، مثلاً، مَن كان يعاني من الجهل (الذي لا يتطابق غالباً مع غياب التعليم) ومن قمع الأنظمة السياسية، مَن تُنتهَك حقوقه المدنية محلياً، ويعدم أي مفهوم ناضج للمواطَنة يتأسَّس على الواجبات قبل الحقوق.[3] لذا يجب ألا تبقى القضية الفلسطينية، على أهميَّتها المصيرية، وسيلة تتذرع بها الأنظمة لكي يتم تجاهُل انتهاكاتها لحقوق الإنسان وللتنفيس عن الاحتقان الداخلي الناجم عن قمعها لشعوبها. لا يستطيع أن يناضل من أجل القضايا المصيرية الكبرى إلا إنسان حر: حر في رأيه، في حركته، وفي تشكيل الأطر التنفيذية التي يستطيع العمل من خلالها. باختصار: لا يستطيع أن يناضل من أجل هذه القضايا إلا إنسان–مواطن.

من هنا يجب على "العقلاء" في المجتمعات العربية، على غرار السيدين جودت سعيد وهاني فحص وآخرين، ألا يملُّوا من الإصرار على المسلمين (الأغلبية الديموغرافية في العالم العربي)، كما على سائر الأفراد الذين تفتَّح فيهم برعمُ المواطَنة، بالكفِّ عن الدعوة لنشر الدين – ولو بالقتال! – إلى العناية بالإنسان، روحاً وعقلاً ومصيراً – أي العناية بحقوق الإنسان، بتعليمه واجباته، بترقية معيشته وحياته، بصون كرامته وحرياته في مجتمع ديمقراطي تسوده التعددية واحترام الآخر، وبالأخص، بالدعوة إلى وضع أسس لتربية جديدة تكرس هذه المفاهيم.[4]

*

نورد الآن مقبوساً من حديث أجرته صحيفة النهار مع الرئيس المصري السيد محمد حسني مبارك، مؤرَّخ في 26 آذار 2002 (أي قبل يوم فقط من انعقاد القمة العربية الأخيرة في بيروت):

س: وإلى أي حدٍّ يمكن للتطرف أن يخدم التطرف؟ هل تعتقد أن توسيع حلقة العنف أحياناً على يد "حماس" و"الجهاد" يمكن أن يعطي شارون المبررات لتصعيد المذبحة الوحشية ضد الفلسطينيين؟

ج: قد يكون في هذا الكلام نوع من وجهة النظر. إذا كان شارون لا يريد أية حلول فإن المضي في تصعيد العنف يخدمه من حيث لا يريد الذين ينفذون العمليات. وأنا أعتقد أنه لا يريد حلولاً.

س: هل هذا يعني أنهم يخدمونه بطريقة غير مباشرة؟

ج: نعم!

هذا الكلام الصادر عن رئيس دولة (يفترض فيه ألا يرسل الكلام على عواهنه في مقابلة رسمية!) يطرح تساؤلاً جدياً عن مدى جدوى ما يسمى حالياً "مقاومة" في فلسطين.[5]

*

إن من الإيلام حتى النخاع أن الذين يناقشون الحق في العمليات "الاستشهادية" هم غير الذين يموتون ممزَّقين أشلاء. وما يصعب تصديقه هو أن العدمية بلغت ببعضهم المدافعةَ، بدون وازعٍ من ورع أو خشوع، عن حقِّهم في حضِّ الآخرين على الموت! لكن هذا كلَّه لا يحتِّم أن يعطِّل تعاطفُنا مع مأساة الشعب الفلسطيني ملَكتَنا النقدية حيال الأخطاء غير المبرَّرة التي جرت وتجري على الساحة الفلسطينية. نحن مجبرون هنا على عدم الخلط بين "التفسير" (الذي يقع على صعيد العلَّة والمعلول) و"التبرير" (الذي يقع على الصعيد الأخلاقي). فنحن قد نستطيع أن نفسِّر الحالة "اللامخرجية" impasse (على حدِّ تعبير محمود سامي علي) التي تدفع ببعضهم إلى تفجير جسمه في أماكن عامة مكتظة بالمدنيين، لكننا لا نستطيع أن نبرِّرها أخلاقياً. إذا رأى أحدهم صديقاً له على وشك الإقدام على الانتحار، لن يبرِّر له فعلَ ذلك بحجة أنه لم يمر بالظروف القاسية التي مرَّ صديقه بها ودفعتْ به إلى هذا الخيار العدمي، بل سيفعل كل ما من شأنه أن يثنيه عن تهوُّره، إن لم يستطع بالفعل فبالقول. ومتى كان الانتحار هو الخيار الأوحد للإنسان، فرداً وجماعة، مهما بلغت به الظروف جوراً وعسفاً؟[6]

وإذا شاء بعضهم برهاناً على أن بعض الفلسطينيين، بسلوكهم هذا، يخدمون ما يبيِّت لهم إسرائيل من مخطَّط، إليهم مقاطع مما قاله الجنرال إفِّي إيتام[7] في حوار طويل معه:[8]

على مصر تقديم أرض سيناء لفلسطينيي قطاع غزة. الوضع الذي نرغب فيه هو أن يحصل المقيمون في غزة على أراضٍ في سيناء، ويكون في مستطاعهم الحصول على المواطنة في دولة فلسطينية سيدة، سوف تكون مؤلفة من مقاطعتين: مقاطعة مركزية في الأردن، ومقاطعة ثانية في سيناء. [...]

الترانسفير ليس مسألة من الضروري التكلم عنها... لكن الحرب لعبة أخرى. أعتقد أن الأساتذة الجامعيين، الذين يدعمون السلام ويعيشون في راحة في البيت الأخضر الذي يقع في حرم جامعة تل أبيب، يعرفون أن الحرم الجامعي كان في وقت مضى قرية تدعى الشيخ مؤنس. دولة إسرائيل لن تجبر الأفراد على تغيير أماكن إقامتهم. ولكن إذا فُرِضَت علينا الحرب الشاملة فالنتيجة أن أكثر من شيخ مؤنس سوف تنشأ في أماكن أخرى. أريد أن أذكر أني لا أريد لذلك أن يحدث لأني أرى نتيجته المريرة. على العكس، أنا أقترح حلاً يمنع ذلك. ولكن إذا كانوا لا يريدون الالتقاء معنا في منتصف الطريق، وإذا لم يكن هناك من حلٍّ إقليمي، واستمر الهجوم الفلسطيني، فإن النتيجة ستكون حرباً شاملة تؤدي إلى مأساة على الشعب الفلسطيني. إذا فُرِضَت علينا الحرب فيجب أن نتصرف كما في الحرب. أستطيع أن أرى أن نتيجة الحرب ستكون أن العرب الذين سيبقون هنا لن يكونوا كثيري العدد.

*

مرة أخرى، إذا ظن بعضهم أن الانتفاضة الفلسطينية – بصورتها الراهنة – هي الشكل الوحيد للمقاومة، كما تزين للناس الأجهزةُ الإعلامية لبعض الأنظمة العربية وغيرها، فهو لا يجانب الصواب فحسب، بل يلعب لعبةَ هذه الأنظمة (ومن يستفيد من استمرارها) الهادفةَ إلى تفريغ شحنات الضيق والتبرم الشعبيين من الأوضاع الداخلية المتدهورة يوماً بعد يوم بصرف الأنظار عنها – كالعادة – إلى قضية "خارجية"، كما قلنا أعلاه.

إن للمقاومة المسلَّحة (مع تحفُّظنا الشخصي عليها) أصولاً عريقة في تاريخ الشعوب المناضلة في سبيل التحرر (فرنسا وروسيا إبان الاحتلال النازي، كوبا، والمثال الأهم: فييتنام)؛ وهي تسمى "حرب مغاوير" تارة، و"حرب أنصار" طوراً، وتشكل فناً قتالياً يندرج ضمن استراتيجية حربية متكاملة. أما العمليات ("كاميكازية" أو "استشهادية"، لن نختلف على التسمية) "الداشرة"، الظرفية، الانتقامية،[9] غير المرتبطة بأية مقاومة وطنية شاملة،[10] فمكتوب لها السحق حتماً – إذ هي تقدِّم الذريعة التي يتلهف إليها ساحقوها الذين، كما بيَّنتْ الشهور الماضية، لا يتورعون ولن يتورعوا عن شيء.[11] وهي، في كل الأحوال، وبصرف النظر عن نتائجها الآنية، لا تتناسب قطعاً وحجم متطلبات الهدف الاستراتيجي المعلَن لقيادة الفصائل التي تنفذها ("تحرير كامل التراب")، ولا تخلق حتى على المدى الاستراتيجي تراكمات من شأنها أن تُحدِث تحولات حاسمة في الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي، بل، على العكس، تفرز تراكمات ضارة تبدِّد كلَّ المكتسبات الفلسطينية (على ضآلتها!)، وتحرم قضية العرب الكبرى من تأييد دولي ثمين، وتعزز التأييد الشعبي للسياسة الإسرائيلية الحالية، وتُفرِغ مفهوم المقاومة من مضمونه الحقيقي من جراء استهلاكه إعلامياً حتى "الابتذال" banalisation.

*

نحن إذن، فيما يخص الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، أمام حالة لامخرجيَّة، يصطدم فيها مسار الدولة الذي أطلقته السلطة الفلسطينية بالمسار الثوري الذي كانت حريصة على رعايته ودعمه لكي تستمد منه قوة سياسية لمفاوضة إسرائيل؛ فإذا به يتجاوز الشرعية التي صارت له (نتيجة تلازم مساري "المفاوضة" و"المقاومة") ليتمرد على "الدولة" التي كان يُفترَض أن يقترن بها، ويُجيَّر لحساب أعداء هذه السلطة في الداخل الفلسطيني الذين أهدافهم المعلنة محق إسرائيل، وتأسيس دولة "إسلامية" من البحر إلى النهر (مروراً قطعاً بإزاحة السلطة).[12]

*

الضعيف مادياً لا ينتصر على القوي مادياً باستقوائه عليه. فالفلسطيني الذي يعتقد أن خياره المتبقي الوحيد هو العنف المسلح يخطئ الحساب إذا لم يكن يعرف مبلغ تصميم عدوِّه على كسره. قذيفة هنا وهناك، تفجير كبير، أو كمين، إلخ... كلُّها تحرشات صغيرة تفتقر إلى العمل المنظم المجدي الذي تتصف به المقاومة المسلحة الحقيقية، ولا تزيد الأقوياء مادياً إلا شراسة. لكن العنف، في التحليل النهائي، لا يُزال بالعنف، ولا يباد السلاحُ بالسلاح، بل بالاستنكاف عن إعمال منطق العنف المادي الأصم و"تغيير قواعد اللعبة"، كما أكد عمار عبد الحميد في مقاله "وبعدين؟"[13] الذي صدمتْ جرأتُه بعض الأصدقاء وكان الصاعق الذي أطلق الحوار حول "اللاعنف والمقاومة" في معابرنا. كما أن أطفالاً يرمون دبابات المركفة القبيحة بالحجارة – على ما فيه من بطولة ومن اختراق لحاجز الخوف – "لا يصنعون لشعب تاريخاً"، كما قال لنا ذات مرة المفكر الفلسطيني المعروف يوسف سامي اليوسف. فالمطلوب قطعاً هو "انتفاضة" شاملة على أسس ومنطلقات جديدة تماماً.

*

الضعيف مادياً، المخذول والمنكسر، ليس أمام أحد خيارين فقط: إما الحرية وإما الموت. فالإصرار على منطق "إما... وإما..." هو دخول في دوامة المنطق الثنوي الذي تعمل به السياسة الأمريكية وتريد تطبيقه وحده على العالم قاطبة: "إما معنا وإما علينا"، "إما معسكر الخير وإما محور الشر"، إلخ. أما خيار "إما الحرية وإما الحياة تحت الاحتلال" الذي اختاره فلسطينيون كثر فقد يبدو الآن مخزياً من الناحية الأخلاقية، لكنه على الأقل يضمن للفلسطينيين مؤقتاً عدم منح الإسرائيليين الذريعة لإبادتهم أو لتهجيرهم، بالبقاء على أرض فلسطين الكفيل، ربما، بتغيير موازين القوى على المدى الطويل، عملاً بقصة الأرنبين التي تم تداولها على الإنترنت مؤخراً:

كان أرنب وأرنبة يجريان وفي أعقابهما قطيع من الذئاب الجائعة، إلى أن اضطرتهم الذئاب إلى الاعتصام في أجمة. بعد بضع دقائق التفت الأرنب إلى الأرنبة وقال لها: "هل تريدين أن نواصل الجري، أو أن نبقى هنا بضعة أيام فنفوقهم عدداً؟"

في الحالات اللامخرجية، هناك دائماً خيار ثالث خفي، قلَّ من ينتبه إليه، يجمع بين الخيارين الظاهرين ويتجاوزهما في الوقت نفسه، إنما على مستوى واقع أعلى (التعبير لبَسَراب نيكولسكو). اللاعنف ليس مجرَّد عدم استعمالك العنف لأنك لا تملك سلاحاً أو لا تقدر أن تقاتل.[14] اللاعنف هو الحدُّ الثالث الذي يجمع بين شجاعة القوي وحكمة العاقل، ويرتقي بهما إلى صعيد الروح. هو سلاح الضعيف مادياً، لكن القوي بروحه، بعقله، وبشعوره العميق الموصول بأن حياته تعدم المعنى ما لم يرتفع الجور عمَّن يحمِّل نفسَه مسؤوليتهم. مرماه هو الإنسان الغافي في قلب الخصم، أو على الأقل ضمير الجمهور الذي يحيط به – فمن شأن جرِّ فضيحة الظلم إلى وضح النهار أن يوقظ القلوب، ويفتح الأبصار، ويباغت الباغي ويزري به. واللاعنف يكسر سلسلة العنف ببيانه للمعتدي أنه على باطل وبفرضه عليه نوعاً من التحول الداخلي يكون فيه شفاؤه.

ما زال اللاعنف، بكل أسف، يلتبس على أذهان غالبية الناس بالسلبية وبالخنوع، لكنه في الواقع شيء آخر تماماً: فالفعل اللاعنفي كثيراً ما يكون بطولياً، وهو يتطلب قدرة هائلة على ضبط النفس. إنه يوجِّه للخصم ضربات موجِعة، لكنها معنوية وليست مادية؛ وهو سلاح ماضٍ، لكنه السلاح الإنساني بامتياز لأنه يرتقي بإنسانية مستعمليه ومكابديه على حدٍّ سواء. كذلك يجب ألا يلتبس بالابتزاز النفسي، حيلة ضعاف النفوس، ولا بالمداهنة غير الموجِعة التي تُقنَّع بها الحقيقة، و"تُغسَل الأدمغة"، وتُفرَض الإيديولوجيات. واللاعنف – وفي هذا شرفه – لا يُفلِح إلا في سبيل القضايا العادلة. فهو عندما يرمي إلى منفعة أنانية، وليس إلى التحول الحقيقي للخصم، سرعان ما ينحطُّ من صعيد الروح إلى صعيد السياسة (بالمعنى المبتذل).

اللاعنف، إذن، لا يمكن أن يكون سلبياً حيال أي حدث، وحيال الظلم بصفة خاصة. وهو سلاح ينبغي ألا يُستعمَل لمجرد المقاومة أو دفعاً للحرب؛ بل يجب، على العكس، أن يدخل في نسيج كيان المناضل، فيثوِّر كل جانب من جوانب حياته – الفردي، الأسري، الاجتماعي، السياسي، والاقتصادي. على الفرد المناضل أن يبدأ بممارسة اللاعنف في حياته اليومية، فيقوم تدريجياً باجتثاث جذور الأنانية والخوف من نفسه، وينمِّي حسَّه بالمسؤولية الأخلاقية، ليس عن نفسه ومجتمعه المباشر وحسب، بل وعن الإنسانية جمعاء. إن المؤمن بـ"قوة الحقيقة" (ساتياغراها) ينطلق من مبدأ أنه غير منفصل عن خصمه،[15] وأن مقاومة هذا الخصم، تالياً، وردعه عن الإمعان في غِيِّه ليس عن كراهية، بل عن شوق لافح إلى إيقاظ الإنسان الغافي فيه – حتى إذا تطلَّب هذا بذل النفس.

*

فلنتخيل المشهد التالي:[16] يتناهى إلى أسماع سكان جنين أن الجيش الإسرائيلي قادم لاقتحام المخيم. يقوم رئيس البلدية (المؤمن، افتراضاً، بمناهج العمل اللاعنفي)، ومعه عناصر الدفاع المدني، بجمع الأهالي، نساءً ورجالاً وأطفالاً، بحيث يقفون في العراء – عُزَّلاً – حائطَ صدٍّ أمام الدبابات الإسرائيلية، حاملين تعليمات بعدم تحريك ساكن وبالثبات في مواقعهم حتى الموت. ماذا كان يمكن أن يحدث إذ ذاك؟ لا بدَّ أن العديد من الفلسطينيين كانوا سيسقطون ضحايا العدوان؛ لكن هل كان حجم القتل والدمار سيبلغ ما بلغ؟ وهل ستكون الآثار النفسية للبطش هي هي؟ لا نستطيع أن نجزم بذلك. ما نعرفه هو أن التضحيات مبذولة دائماً في القضايا العادلة، والأفضل هنا – قطعاً – بذلها بما يصون كرامة الفلسطينيين، فيكون استشهاد من يستشهد شهادة حقاً للحق على الباطل، بما يسدُّ الذرائع على الجيش الإسرائيلي، فيكون عاجزاً عن تبرير جريمته فيما إذا ارتُكِبَت،[17] ويشكل سابقة في العالم العربي، يحذو حذوها العرب وكل مظلوم في العالم.

*

نسوق هنا نتفاً من حوار متلفز[18] مع جيرار حداد، المحلِّل النفسي الفرنسي المعروف، والمتصوف الحصيدي في توجُّهه الروحي:

-         مأساة إسرائيل هي تحويله إلى دولة قومية [...] رسالة إسرائيل هي رسالة الأنبياء: إشعيا، إرميا، موسى... وليست قطعاً رسالة السيد شارون [...]. ما يفعله الجيش الإسرائيلي في رام الله أنا [تدمع عيناه]، كيهودي، لا أطيق احتماله!

-         وما يفعله الفلسطينيون؟! إنهم أيضاً يقتلون الأبرياء!

-         هذا ليس من شأني!

ما يرمي إليه جيرار حداد، إذا أحسنَّا تأويل ما قال في الجملة الأخيرة (التي اختُتِم بها الحوار معه)، هو أن على كلِّ معسكر ألا يبرِّر أخطاءه بأخطاء معسكر الخصم، فيسوِّغ الجريمة بالجريمة (مع عدم وضع إجرام الدولة المنظَّم مع تهور شباب عقائدي يائس في ميزان واحد)، بل أن يبدأ أولاً بإصلاح نفسه ويعمل على مواجهة مشكلاته الداخلية، من فقر وجهل وأثرة وفساد، وتكالب على السلطة واستئثار بها وحكم أمني قامع.[19] ولا شك، بهذا الصدد، أن كل الأطراف التي تتلاعب بخيوط اللعبة، بما فيها إسرائيل، مستفيدة من إدامة الوضع القائم – وإلا سرعان ما ستطفو مشكلاتها وتناقضاتها الداخلية على السطح وتنغِّص عليها راحة بالها!

*

وبعد، فهل نتَّعظ مما جرى ومما يجري؟ أم نستمر في اندفاعنا المحموم من انكسار، إلى مباهاة، إلى فخ، فإلى انكسار أشنع، فإلى فخ انكسار آخر نباهي به، رغم أنه، على ما يبدو، سيكون القاصم الذي لن نقوم بعده؟! – وكأننا لم نعتبر بما جرى في الصومال والعراق وأفغانستان، وبما جرى ويجري حالياً في كشمير والفيليبين؟

أجل، إنها خطوة نتشوق إليها: أن ينطلق الشعب الفلسطيني في انتفاضة لاعنفية تصير نموذجاً يُحتذى لعرب أثبتت دولهم أنها محنَّطة، أصابها الترهُّل بنيةً فوقية وبنيةً تحتية. أجل، يجب أن ينتفض الفلسطيني – ومعه العربي والمسلم والمسيحي واليهودي والهندوسي أينما كانوا – على دافنيه في "ثقافة الموت"، ثقافة كهوف تورا بورا، بكل أشكالها، الفكرية والاجتماعية والسياسية، بما يدرأ أخطار الأصوليات الدينية المتطرفة، من ناحية، فضلاً عن الإيديولوجيات السياسية البالية التي انتهت إلى أنماط متخلفة من الاستبداد، وإلى ألوان من الإرهاب، كان لا بدَّ أن تجد "معادلها الموضوعي" في إرهاب الدولة الإسرائيلي!

*** *** ***


[1] هذا ما يشدد عليه المهاتما غاندي إذ يقول: "يمكننا تشبيه الوسيلة بالبذرة، والغاية بالشجرة؛ والصلة غير القابلة للاختزال بين الوسيلة والغاية هي عينها الصلة بين البذرة والشجرة." وهذا ما توسَّع في شرحه ديفيد مكرينولدز في مقاله في "فلسفة اللاعنف" المنشور في جزأين (في الإصدارين السابع والثامن من معابر)؛ والمقال، بجزأيه، زاخر بالأمثلة الحية عن مناهج العمل اللاعنفي لكي لا نبقى في الحيِّز النظري العقيم.

[2] أكد هفال يوسف على ضرورة وضع مثل هذا البرنامج في إحدى مداخلاته في حوار معابرنا.

[3] راجع: ندره اليازجي، "وثيقة واجبات الإنسان"، معابر، الإصدار الأول.

[4] بعض أفراد أسرة معابر بدأ يعمل في هذا الاتجاه بقدر ما أوتي من إمكانية.

[5] نحن لا نتكلم هنا من منطلق أخلاقي، بل من منطلق براغماتي صرف.

[6] شدَّد أكرم أنطاكي بقوة على هذه النقطة في حوارات معابرنا.

[7] الرئيس الجديد للحزب القومي الديني الإسرائيلي، الذي ضمَّه شارون إلى المجلس الوزاري المصغَّر خلال الاجتياح الإسرائيلي الأول للضفة الغربية في إطار التعديل الوزاري على حكومته.

[8] ملحق هآرتس، الطبعة الأمريكية، 22 آذار 2002. من ناحية أخرى، أظهر استطلاع سنوي للرأي العام الإسرائيلي (استند إلى عينة من 1264 إسرائيلياً يهودياً)، أجراه مركز جافي للدراسات الاستراتيجية في جامعة تل أبيب بإشراف البروفيسور آشر أريان، أن 46% من اليهود الإسرائيليين يؤيدون الترانسفير، أي ترحيل فلسطينيي الضفة الغربية وقطاع غزة، بينما يؤيد 31% منهم أيضاً تهجير العرب الإسرائيليين من الدولة العبرية. وقد ارتفعت هذه النسبة عنها عام 1991 عندما كان 38% من اليهود يؤيدون ترحيل فلسطينيي الضفة والقطاع و24% العرب الإسرائيليين. (عندما طُرِحَ سؤال الترحيل طرحاً غير مباشر، أجاب 60% من الذين شملهم الاستطلاع أنهم يحبذون تشجيع العرب الإسرائيليين على الرحيل.)

[9] "المجاهد" الحقيقي، أياً كان منهاجه، لا يجاهد ثأراً من خصمه أو نقمة عليه، بل من أجل رفع الظلم وإحقاق الحق وحسب.

[10] مما يؤسَف له فعلاً أن الفصائل المسلَّحة صادرت الطابع الشعبي للانتفاضة الفلسطينية (نلحظ هذه الظاهرة أيضاً في جنوب لبنان)، حتى بات دور الشعب مقتصراً على رثاء ضحاياه وحصد ردود فعل الهمجية الإسرائيلية.

[11] جرت في فلسطين حملة توقيع على نداء بادرت إلى إطلاقه في حزيران 2002 مجموعة من الشخصيات الفلسطينية (ضمَّت نحو 50 شخصية، بينها حنان عشراوي وسري نسيبة وصالح رأفت وآخرون) يدعو لوقف العمليات الكاميكازية ضد المدنيين الإسرائيليين. وقد توجَّه النداء إلى "الذين يقفون وراء العمليات العسكرية التي تستهدف المدنيين في إسرائيل ليراجعوا حساباتهم ويتوقفوا عن الدفع بشباننا إلى القيام بهذه العمليات لأننا لا نرى نتائج منها سوى تكريس البغض والكراهية بين الشعبين". وبالطبع، رفضت حماس والجهاد الإسلامي دعوة السلطة الفلسطينية إلى "التوقف التام" عن العمليات ضد المدنيين في إسرائيل.

[12] من اللافت هنا أن "كتائب شهداء الأقصى" كثَّفت عملياتها "الاستشهادية" بعد انتهاء الاجتياح الإسرائيلي الأول للضفة لكي تقطع الطريق على محاولة حماس والجهاد احتكار "المقاومة" – وهذا المنطق، لعمرنا، هو أعجب العجب!

[13] معابر، الإصدار السابع، باب "اللاعنف والمقاومة".

[14] كما يبدو أن بعض الأصدقاء فهمه، إذ دعا إلى استعمال "اللاعنف" بإيجاد شبكة مقاومة إعلامية وتشكيل لوبيات ضغط تُوازِن أثر اللوبيات الصهيونية – على أهمية ما دعا إليه وضرورته قطعاً.

[15] يقول غاندي: "أشعة الشمس كثيرة عبر انكسار الضوء، لكن مصدرها واحد. لذا لا أستطيع أن أفصل نفسي عن أكثر النفوس شراً...".

[16] نعتذر هنا من د. خالص جلبي على سوق هذا المثل الذي أورَدَه، بحذافيره تقريباً، في مقاله "الحاجة إلى "غاندي" في فلسطين"، المنشور تحت باب "اللاعنف والمقاومة" في هذا الإصدار من معابر، علماً أننا استعملناه في حوارنا مع الأصدقاء في معابرنا قبل الاطلاع على مقاله، المنشور أصلاً في صحيفة الشرق الأوسط! وهذا إن دلَّ على شيء فهو يدل على نوع من "التخاطر" المعبِّر عن التوافق العقلي بين الذين يتبنُّون هذا المنحى الإنساني في التفكير.

[17] بكل أسف تمَّت مقايضة مجزرة جنين بثمن بخس، حيث ما كان لمبدأ المقايضة أن يجوز أصلاً!

[18] بثَّته قناة ARTE الفرنسية الألمانية المشتركة إبان الاجتياح الإسرائيلي.

[19] نحن نتكلم هنا، نقلاً عن أصدقاء فلسطينيين، عن الوضع الحالي في الضفة الغربية والقطاع.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود