النظرة إلى الآخر في الخطاب الغربي

جان جبور وأنسنة التفاعل الثقافي

مارلين كنعان

 

في القرن التاسع عشر، مع سطوع نجم الفلسفة الهيغلية، تربَّع مفهوم "الآخر" على عرش الحياة الفكرية حين أعلن الفيلسوف الأكمل، في ظواهرية الروح، أن الآخر ضروري لوعي الذات، وبدونه ليست الذات شيئاً، لأنها لا تعي نفسها إلا بمقدار ما تعي الآخر!

لكن الذاتَ الواعيةَ الآخرَ التي يتحدث عنها هيغل، بحسب قانون الحياة، هي، أولاً، ذات تتحدد بالنفي والصراع مع الآخر، على ما يشرح في جدلية السيد والعبد.

ليست هذه العلاقة الجدلية وقفاً على الأفراد. هي أيضاً تتموضع في مسرى التاريخ وتحكم العلاقات بين البلدان والمجتمعات، من مشرق الأرض إلى مغربها. وما الاستشراق في سيرورته التاريخية إلا تجلٍّ لهذه النظرة الفلسفية الهيغلية وتأكيد لها. فالغرب تبنَّى، في كتاباته كلِّها، حيال شعوب الشرق ومجتمعاته وثقافاته ولغاته ودياناته، نظرة دونية وقعت تحت تأثير الأحكام المسبقة، والمواقف المتعصِّبة، والنظريات المُغرِضة والعنصرية، والتفسيرات الاختزالية لواقع هذه البقعة من العالم.

وها هو ذا جان جبُّور، في كتابه النظرة إلى الآخر في الخطاب الغربي، الصادر حديثاً عن دار النهار للنشر (2001)، يساهم، على طريقته، في النقاش الفكري الدائر حول موضوع العلاقة بين الشرق والغرب الذي أثار اهتمام العديد من المفكرين والمثقفين، أمثال أنور عبد الملك في مقالته الاستشراق مأزوماً (1963)، وكتاب إدوارد سعيد الاستشراق (1978)، ودراسة صادق جلال العظم الاستشراق والاستشراق معكوساً (1981)، فيرصد تطور نظرة الغربيين إلى الشرق "الآخر" منذ القرون الوسطى حتى مطالع القرن العشرين، وذلك عبر تحليل رصين لنصوص أدبية فرنسية مختارة من الرواية والمسرح وأدب الرحلة، تُخفي في طيَّاتها حقيقة نظرة الغرب إلى الشرق ونمطيَّة ذهنيَّته، التي تنفيه حيناً وتشوِّهه أحياناً أخرى، فيعمد إلى تفسيرها وفق منهج علمي واضح يتحلَّى بالموضوعية وبالاستقلال الفكري وبالرغبة المجردة في البحث عن الحقيقة حيال الموضوع المطروح، بدون الوقوع في فخ الانتقائية.

تقع دراسة جان جبُّور في ثلاثة أبواب تتضمن، تباعاً، موضوعات "القرون الوسطى وبدايات النهضة: الحروب الدينية وتشكُّل صورة الآخر"، "الكلاسيكية وعصر الأنوار: بين التغرُّب والتنوير"، و"عصر الرومنسية بين أحلام الشعراء والأطماع الاستعمارية"، بالإضافة إلى توطئة وخاتمة واستنتاجات ودراسة تاريخية تمهيدية لكل باب تهدف إلى إلقاء الضوء على الحوادث التاريخية التي كُتِبَت الأعمال الأدبية على خلفيَّتها. غرضُه فهم تطور هذه الصورة المتشكلة عن الشرق في الخيال الغربي، على تشويه وتحريف واختزال.

وجبَّور، إذ يدرس استقبال الثقافة الأوروبية الغربية للثقافة العربية الإسلامية وتعرُّفها عليها على خلفية غزو المسلمين لأراضي شبه الجزيرة الإيبيرية في بدايات القرن الثامن، يلحظ تشكُّل "صورة نمطية لأمة لا تستسيغ سوى العنف والتدمير والنهب والقتل ولا تؤمن إلا بالخرافات والبدع ولا يحكم تصرفها أية خلقية" في ذهنية السواد الأعظم من الأوروبيين. وما تحليل "أنشودة رولان"، أقدم أغاني المآثر الفرنسية التي نُشِرَت لأول مرة على يد فرنسيسك ميشال عام 1837، مع أنها تعود إلى القرن العاشر، إلا توكيد على هذه الصورة النمطية التي تسبغ على الآخر – هنا العرب المسلمين – صورة العدو الكافر والشرِّ الأعظم التي ستُتَرجَم، على مدى قرون، في الفن والنحت والشعر لتصبح راسخة في ذهن العامة. لذا يعتبر جبُّور "أنشودة رولان" نموذجاً للجهل بصورة الآخر الناجمة عن الوهم والتخيًّل. ثم يتابع مقاربته التحليلية لهذه الصورة عبر التاريخ، متوقفاً أمام "أنشودة أنطاكية" التي تروي حوادث حملة الإفرنج الأولى إلى الشرق، والتي يعود تاريخ تأليفها إلى القرن الحادي عشر، فيروي تفاصيلها ومعاركها ووصفها للأعداء في صورة تتداخل فيها الوقائع التاريخية بالنَّفَس الملحمي الأسطوري، عاكِسة في أبياتها الذهنية السائدة في تلك الفترة. وإذا كان من الطبيعي أن تتحدث كل ثقافة عن ثقافة أخرى غريبة عنها وغير مألوفة لديها في صورة سلبية فإن "أنشودة أنطاكية"، على الرغم من "تصنيفها كوثيقة مكمِّلة للمدوَّنات التاريخية"، تكرِّر الأفكار السابقة فتُسقِطُها على الآخر بطريقة تنمُّ عن الجهل به، واقعة في فخ الغلوِّ والتزييف والتشويه.

المنهج الذي طبَّقه جان جبُّور على "أنشودة رولان" و"أنشودة أنطاكية" يتابعه في تحليله سيرة "صلاح الدين" التي تعود إلى القرن الخامس عشر و"جمهورية الترك" لغيوم بوستيل في القرن السادس عشر، فيدرس فيهما تطور فهم الغرب للشرق وتحريف عقائده واحتواء قيمه وشخصياته، ولا سيما شخصية صلاح الدين. ويتوقف أمام ظاهرة نشأة الاستشراق الثقافي–الأكاديمي وإطاره الإبستمولوجي مع أعمال بوستيل، خصوصاً في كتابه هذا الذي نُشِر عام 1560 وتضمَّن مجمل مشاهداته وملاحظاته في أحوال السلطنة العثمانية.

مع دخول الغرب مرحلة العقلانية وولوجه عصر الأنوار، يلاحظ جبُّور، من خلال تحليله الإطار التاريخي في أوروبا الكلاسية، ظهور سلسلة جديدة من الاهتمامات والمصالح السياسية والاقتصادية والاستراتيجية الغربية في الشرق، قائمة على إخضاعه واستعماره؛ مما يعني تحوُّل الغرب من إدراك الشرق نصوصياً إلى إدراكه ممارسة، على ما يقول إدوارد سعيد، فيشير إلى إنشاء المراكز التجارية وتضاعف عدد الرحالة والسفراء والقناصل، وتعاظم دورهم بعدما شكَّلت تقاريرهم وتدويناتهم مصدر معرفة جديداً. يبحث في أدب الرحلة، ولا سيما نص جان دو تفنو، رحلة إلى المشرق، ورحلة إلى مصر وسوريا لفولني، ومسرحيات بايزيد لجان راسين، والتعصب أو محمد الرسول لفولتير، والسلطانات الثلاث لشارل–سيمون فافار، متتبِّعاً فيها تكوُّن الأفكار والمعايير التي حكمت رؤية الغرب للشرق، فاصلاً بين موقف الانبهار والاقتناع المحوري الذي تنطوي عليه النصوص بوجود فارق أساسي وجذري بين الطبيعة الشرقية من ناحية، والطبيعة الغربية من ناحية ثانية لصالح التفوق الكامل للغرب. وإذ يفكِّك الكاتب في تحليلاته "أسطورة الطبائع الثابتة" والمتمايزة بين الشرق والغرب، ينقض "المشروعية التي منحها الغرب لنفسه للهيمنة على شعوب الشرق المصنَّفة في خانة الضعف والجهل والتخلف".

ولكن على الرغم من تجذُّر مقولات ثانية في أذهان الغربيين واتخاذها شكل أنماط فكرية متحجِّرة انعكست في نماذج أدبياتهم أفكاراً خاطئة وصوراً مشوَّهة تنطوي على الكثير من العشوائية والشطح، يرى جبُّور، بعد التعمق في الأسباب التاريخية لهذه الصورة، تعاطياً جديداً في التطلع إلى الشرق، فيشدِّد في هذا السياق على كتابات فولناي حيث "لا كره للآخر بسبب ديني، ولا طمع في أرضه لسبب اقتصادي، وإنما من أجل الأخذ بيده وإدخاله في ركب التقدم عن طريق اعتناقه مبادئ فلسفة التنوير"، مبرِّراً فكرياً حركة الاستعمار.

وبغية مواكبة أعمق لتطور نظرة الغرب إلى الشرق، يتابع المؤلف قراءته النقدية لنصوص ظهرت في القرن التاسع عشر بعد حملة بونابرت على مصر، فيتوقف أمام كتاب شاتوبريان رحلة من باريس إلى القدس، وديوان فكتور هوغو المشرقيات، وتدوينات لامارتين في رحلة إلى الشرق، ومجموعة المراسلات لفلوبير، ورواية الفلاح لإدمون آبو، والسراب الشرقي للويس برتران. ويبدو، بعد البحث والتحليل، أن رؤية الغرب للشرق في هذه الفترة، عبر النماذج الأدبية المختارة، قد تأرجحت بين الحلم والانجذاب للسحر الشرقي، وتجدد الأطماع الاستعمارية. ولعل هذا التأرجُح يُقرَأ انطلاقاً من تأصُّل موروث ثقافي وتفتح مديد للخيال.

من المفيد التذكير، في إطار المعالجة الأكاديمية الرصينة التي يتحلَّى بها كتاب النظرة إلى الآخر في الخطاب الغربي، أن حركة توسُّع كل حضارة خارج نطاق حدودها على حساب الحضارات الأخرى، بواسطة إخضاعها ونهبها واستغلالها، ظاهرة معقدة. وإذا كان الغرب، على ما يقول جبُّور، لم يطبِّق (في معظم الأحيان) منهجاً علمياً محايداً ومقاربة موضوعية في دراسة الشرق، نراه، في أحيان أخرى، يقوم بإنجازات علمية حقيقية لا علاقة لها بالأحكام المسبقة والموروثات الإيديولوجية (من دينية أو سياسية). ففكُّ رموز الألغاز الشرقية الضائعة، وتحقيق كمٍّ هائل من المخطوطات والتعليق عليها وترجمتها، ونبش الآثار التي خلفتها الثقافات والحضارات المتعاقبة على الأراضي المشرقية، تشكِّل، هي أيضاً، منحى مختلفاً في النظرة إلى الآخر. من هذه الزاوية، نفهم حذر جان جبُّور، على الرغم من الاستنتاجات التي يخلص إليها، من الوقوع في فخ "الاستشراق المعكوس" وتبنِّي الأحكام المبرَمة القائمة على نظرية "الطبائع الثابتة" أو "ميتافيزيقا الاستشراق"، كما سمَّاها صادق جلال العظم؛ فيرفض التأكيد أن العقل الغربي مفطور بطبعه على إنتاج وإعادة إنتاج تصورات مشوَّهة عن واقع الشعوب الأخرى، في سبيل تأكيد ذاته والإعلاء من شأن تفوقه وسطوته، ويعترف بأن الكتَّاب الذين درس نصوصهم لا يختصرون الفكر الأوروبي على مرِّ العصور. فهم قد اعتنقوا الآراء الشائعة في محيطهم وأوساطهم حول الشرق. لذا يختم دراسته بضرورة التعاون بين الشرق والغرب، لا على أساس التاريخ فحسب – والظلمات فيه كثيرة – مع العلم أن ليس أحدٌ منا محض استمرار لتاريخه، بل على أساس الانفتاح الحقيقي على الآخر، مراهناً على عظمة التجربة الإنسانية المشتركة والتلاقح الفكري وتفاعله – وهو عنده أساس المجتمعات.

بعد هذا يكون الإنسان مع الإنسان.

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود