م. ك. غاندي

بين القداسة والسياسة

دراسة في المنحنى الشخصي لحياة "مثاليٍّ عملي"

 

ديمتري أفييرينوس

 

كلُّنا غاطسون في مصرف الماء، لكن بعضنا ينظر إلى النجوم.

أوسكار وايلد

إن الذي يدفع بالخير على الشر فكأنه فَتَح العالم.

المهاتما غاندي

لا حاجة للحقيقة إلى أيِّ ترويج خارج ذاتها.

المهاتما غاندي

 

رجل ضئيل البنية عجيب، أقرب إلى الدمامة، يكاد مرآه، للوهلة الأولى، أن ينتزع ابتسامة! أنفه الكبير المدبَّب يطلُّ من فوق شاربين متمرِّدين؛ أذناه الناتئتان أكبر من أن تتناسبا ورأسَه المستدير الأصلع؛ نظَّارتاه الرخيصتان تضفيان على عينيه البراقتين، المشعَّتين فطنة، مظهراً أشبه ما يكون بالبومة. كان دائم التدثُّر بالـدهوتي؛ وهو ثوب ما كان ليستر ركبتيه المعقودتين وفخذيه النحيلين. كل ما كان يملك من هذه الفانية كان يتسع له منديل صغير؛ ونذره للفقر، بنظر مواطنيه المتواضعين، كان سمة قداسة لا ريب فيها.

م. ك. غاندي

الهند المستقلة، كما هي عليه اليوم، ما كانت لترى النور لولا جهاد هذا الرجل الناحل التقي. فقبل أن يصبح موهنداس كرمتشند غاندي "المهاتما" – الروح العظمى – معبود الهند الحديثة، لم يكن حزب المؤتمر الوطني الهندي يعدو كونه جمعية من الملتقيات المتناقضة، يختلف إليها مثقفون من الطبقة الوسطى، تلقوا تعليماً بريطانياً، يسعون وَجِلين إلى تضييق الخندق الفاصل بين مبادئ العدالة والحرية النبيلة للبريطانيين وبين مسلكهم اليومي في الهند.

تقوم منزلته الرفيعة على كونه حقَّق معادلة – كانت ممكنة في التاريخ القديم وتكاد تصير متعذرة اليوم – الجمع بين مقامي الحكيم والمرشد الروحي، من ناحية، والرائي السياسي الملهَم، من ناحية ثانية. أجل، كان غاندي نبياً اجتهد طوال حياته في بلوغ مثال الحقيقة واختباره، كما انكشف له عبر هندوسية منفتحة على الأديان والملل كافة. وكان لا يني يصرُّ أنه رجل خبرة روحية أصلاً، وليس رجل سياسة: "أنا مثالي عملي"، "أحاول أن أُدخِل الدين في مجال السياسة"، كما كان يحلو له أن يقول في مناسبات عديدة. لكنه، مع ذلك، كان رجل الأفعال بقدر ما كان رجل التأمل. وهذه الثنوية التي تمكَّن من اجتراح معجزة اختزالها إلى وحدة تستند إلى كشفين حاسمين من الكشوف التي رسمت مسار حياته الداخلية: "الله هو الحقيقة"؛ والكشف الثاني الأعمق: "الحقيقة هي الله". فالكشف الأول ينفي الحقيقة من العالم إلى المطلق، المتعالي على العالم، بينما الكشف الثاني يعيد الله إلى دروب الحياة اليومية، مثلما يمكن للمرء أن يغرف من ماء الغانج المقدس براحتي يديه، أو أن يعرف بتذوُّقه حبة رز واحدة فيما إذا كان الرز كلُّه ناضجاً أم لا (راماكرشنا).

لقد جمع المهاتما في مذهبه الحياتي بين المنظورين الإسلامي، حيث يجمع الله بين صفتي الحق والعدل، والمسيحي، حيث يمكن للألوهة أن تتجسَّد في حياة إنسان فرد. فمن يصبح الحقُّ والعدلُ قوامَ حياته يتألَّه؛ وعلى التبادل، من يتوق إلى التألُّه، مخلصاً للحكمة الأزلية، حيث "لا وجود إلا لله، ولا لشيء سواه" (غاندي، الهند الفتاة)، يجب أن يعمل بموجب الحق (= العدل) وأن يسري في شرايينه شوقٌ لافح إلى إحقاقه.

ولا ينال من منزلته الروحية السامية قولنا إن هذا القديس كان يخفي في جعبته أكثر من سهم. في قيادته البشرَ كان لطفُه ينطوي على عزيمة فولاذية؛ ومع أنه كان لا يلين فيما يخص الأمور المبدئية فإنه كان يتحلَّى بمرونة فائقة في الأمور التكتيكية؛ كان طاهر الطويَّة، لكنه قادر بذكائه على النيل من خصمه في نقطته الأضعف؛ لجوجاً في مطالبته بالحق، لكنه يعرف كيف يتحيَّن الساعة المناسبة للعمل. لقد تسبب تنقُّله تباعاً بين المواقف الوطنية الصلبة والتسويات المرحلية المهادِنة في إحراج مؤيِّديه وفي شماتة خصومه التي وصلت أحياناً إلى حدِّ تخوين معارضي نهجه له وطعنهم في مصداقية جهاده الوطني.

"كما قال غاندي" تعبير شائع في الهند المعاصرة. فالحكومة كثيراً ما تورِد اسمَه لتبرير سياساتها، والمعارضة تستخدمه كلما احتجَّت على الحكومة. الإشارات إلى مذهبه اللاعنفي لا تتم غالباً إلا من أطراف الشفاه؛ لكن كلما دافع الزعماء الهنود عن المنبوذين، أو وضعوا برامج لتنمية الريف، أو قاوموا إغراء قمع متمردين بقوة السلاح، فإنهم يصغون إلى صوت غاندي. لقد صار المهاتما أكثر من مجرد زعيم مبجَّل: صار ضمير أمة.

تلامذة مدرسة يعرضون لوحة تمثل مراحل حياة غاندي، بينما يُشاهَد دولاب الغزل على اليسار. كتبهم المدرسية تقدِّمه على أنه "أبو الأمة".

فمن هذا الرجل الذي اختير "رجل القرن العشرين" والذي قال عنه أينشتاين في كتابه كيف أرى العالم إنه "أعظم عبقرية سياسية عرفتها حضارتنا"؟

***

1.    الفترة التحضيرية (حتى 1914)

الميلاد والنشأة

ولد غاندي يوم 2 تشرين الأول عام 1869 في بوربندر، البلدة الساحلية في شبه جزيرة كاثياوار شمال مومباي، والإمارة الصغيرة في ولاية كوجارات، حيث كان أبوه كرمتشند غاندي، وجدُّه من قبل، رئيس وزراء راجا (= أمير) على ثلاثة مدن–دول. كانت أسرته هندوسية متديِّنة تديُّناً سُنِّياً، وكانت تنتمي إلى طائفة الموده بانيا، وهي طائفة متفرعة عن طائفة الـفايشيا المخصصة للتجار (اسم "غاندي" يعني باللغة الكوجاراتية "بقَّال"). وقد وصف أمه بكونها امرأة شديدة التقى تختلف يومياً إلى المعبد.

كان موهن طفلاً ضئيل الجسم، يمقت الرياضة، متوسط النتائج في المدرسة. واعترافاته، الصريحة صراحة تكاد تكون محرِجة، تخبرنا أنه لم يكن مستثنى من عيوب الضعف البشري. فقد انتهك، وهو بعدُ صبي، المحرَّمات المفروضة على الهندوس بأكله سراً لحم الماعز، فكان قصاصه كابوساً مروِّعاً رأى فيه معزاة حية تثغو بإلحاح في معدته. وبمقتضى العرف الهندوسي تزوج في الثالثة عشرة فتاة في سنِّه بدون علم مسبق بالأمر، وظل زوجَ كاستورباي الوفية طوال 62 سنة. لكنه ظل طوال حياته يشعر بالـ"عار" كلما تذكر "شبقه" في صباه. وقد روى في سيرته الذاتية أنه كان في فراشه مع كاستورباي عندما توفي والده – وهي "وصمة لم [يـ]ـستطع أن [يـ]ـمحوها أو [يـ]ـتناساها قط". كان طموح موهن الفتى أن يدرس الطب، لكن بما أن هذا كان يُعتبَر تدنيساً لطائفته فقد أصر عليه أبوه أن يدرس الحقوق.

ذهب غاندي إلى إنكلترا للدراسة في أيلول 1888. مكث في لندن مدة ثلاث سنوات، طالباً معوزاً يحضِّر لإجازة في الحقوق ويجتهد في الالتزام بنذره في عدم مساس اللحم والخمر والنساء. فقبل أن يغادر الهند، وعد أمه بأنه لن يقرب اللحم، فصار نباتياً متحمساً في غربته أكثر منه في الوطن. ومع أنه لم يستطع أن يتكيف تماماً مع نمط الحياة الإنكليزي فقد واتتْه رغبة عابرة في أن يصير جنتلمان بريطانياً بتلقي دروس في الرقص؛ لكنه سرعان ما انصرف عنها إلى اهتمامات أكثر انسجاماً مع طبيعته العميقة. اطَّلع آنذاك على الإنجيل، فأخذت موعظة المسيح على الجبل بمجامع قلبه. وقرأ كتاب توماس كارلايل في البطل وعبادة البطولة، وأعجِب من خلاله بخصال نبي الإسلام أيما إعجاب. كما تعرَّف إلى صديقين ثيوصوفيين أقرأاه الـبْـهَـكَـفَدغيتا، كتاب الحكمة الهندوسية الخالد (القرن الثالث ق م)، الذي اعتبره غاندي بمثابة قاموسه الروحي الرئيسي والمرجع الذي ظل يستلهم منه أفكاره حتى استشهاده. في لندن أيضاً قرأ مفتاح الثيوصوفيا للسيدة بلافاتسكي الذي دفعه إلى التعمُّق في الهندوسية ورسَّخ فيه قناعة بأن الأديان، وإن اختلفت في تجلِّياتها التاريخية، فهي واحدة في ينبوعها الأصلي.

في 10 حزيران 1891 رُسِمَ غاندي محامياً وعُيِّن في محكمة الاستئناف، فأبحر عائداً إلى مومباي. لدى عودته إلى الهند بحث غاندي عن فرصة عمل مناسبة تسمح له بممارسة المحاماة وبالمحافظة، في الوقت نفسه، على المبادئ التي نشأ عليها. كانت بداياته صعبة، زاد من مشقتها حياؤه الشديد واستقامته القصوى؛ لذا لم يصب إلا نجاحاً محدوداً في ممارسة المحاماة في راجكوت ومومباي، ثم خدم لفترة وجيزة محامياً لأمير بوربندر.

جنوب أفريقيا: البداية

تسنَّى لغاندي عام 1893 أن يذهب إلى جنوب أفريقيا ممثِّلاً قانونياً لأصحاب شركة مسلمين في قضية تعويضات عن خسائر في بريتوريا، عاصمة الترانسفال في اتحاد جنوب أفريقيا. ما كان للوضع في جنوب أفريقيا، في تلك الفترة من الطفرات الاقتصادية التي تحتدم فيها الصراعات الاجتماعية والعرقية، أن يترك غاندي غير مبالٍ. هناك بدأ المحامي الحَيِيُّ الشاب باكتشاف نفسه. فبينما كان مسافراً ذات مرة في مقصورة درجة أولى في ناتال أمره رجل أبيض بالمغادرة. امتثل غاندي للأمر ونزل من القطار، ثم وصرف الليلة كلها في محطة قطار متفكِّراً، وخرج عازماً على العمل على استئصال التمييز العرقي. لقد راعته كيفية معاملة الجالية الهندية التي كانت آنذاك تعاني التمييز نفسه الذي يعاني منه سكان البلاد الأصليين السود، فشنَّ حرباً لا هوادة فيها على صعيدين: صعيد العمل السياسي، وصعيد الجهاد ضد المظالم الاجتماعية، مطالباً للهنود بالاعتراف بالحدِّ الأدنى من الكرامة الإنسانية والمدنية، محارباً التمييز بوجوهه القانونية والاقتصادية والاجتماعية (يصحُّ هذا أيضاً على جهاده اللاحق في الهند). وهذه القضية استبْقته في جنوب أفريقيا ليس سنة، كما كان يفترض، بل حتى عام 1914.

بعيد حادثة القطار دعا غاندي إلى عقد أول اجتماع لهنود بريتوريا حمل فيه على نظام التمييز العرقي. وقد أصاب، بترافعه عن قضية الهنود المظلومين في الناتال والترانسفال، نجاحاً ملموساً أمام المحاكم. وفي عام 1896 ذهب إلى الهند ليصطحب كاستورباي وابنيه إلى أفريقيا. وقد تسربت أخبارٌ عن خطاباته هناك إلى أفريقيا؛ لذا عندما عاد غاندي إلى جنوب أفريقيا رجمه الغوغاء وحاولوا إعدامه إعداماً تعسفياً.

النمو الروحي

كانت الفترة التي أمضاها غاندي في جنوب أفريقيا من أهم مراحل تطوره الروحي والفكري والسياسي، حيث أتيحت له فرصة تدقيق قناعاته وثقافته الروحية وتعميقها، والاطلاع على ديانات وعقائد مختلفة، ووضع نهج أصيل في العمل السياسي، وتطبيق قناعاته الأخلاقية والسياسية، حتى على صعيد الحياة الأسرية.

هكذا وضع غاندي فنَّ مقاومة جديداً كلَّ الجدة، يرتكز إلى مقومات روحية واقتصادية وسياسية في آن معاً. ففي عام 1907 حرَّض كافة الهنود في جنوب أفريقيا على تحدي ما يُعرَف بـ"المرسوم الآسيوي" الذي يفرض على كل الهنود تسجيل أسمائهم وبصماتهم في سجلات خاصة. وقد عوقب على هذا النشاط بالحبس مدة شهرين، ثم أُطلِق سراحه بعد أن وافق على التسجيل الطوعي. وقد قرأ وهو يصرف عقوبته الثانية في السجن مقالة الفيلسوف الترانسندنتالي الأمريكي هنري دافيد ثورو (1817-1862) العصيان المدني التي أثرت فيه تأثيراً عميقاً وعززت قناعته بضرورة رفض الانصياع لنظام جائر. كما قرأ أيضاً كتاب الروائي الروسي العظيم ليف تولستوي خلاصكم في أنفسكم، الذي رسَّخ معارضته لتبشير أصدقائه المسيحيين (ولاسيما "الكويكرز" منهم)، ومقالاته التي كان يدعو فيها إلى المقاومة اللاعنفية للسلطة الفاسدة، فكانت بين الرجلين العظيمين مراسلة هامة بين عامي 1909 و1910. قرأ كذلك كتاب المصلح الإنكليزي جون رَسْكن حتى آخر رجل الذي بشَّر فيه المؤلَّف بكرامة العمل اليدوي ونادى بالعودة إلى الروح الجماعية والحياة البسيطة.

لكن ما من شك في أن التراث الروحي الهندوسي هو الذي زوَّد غاندي بالأدوات الفكرية والنفسية والعملية للعمل الداخلي. إن نهجه الحياتي يندرج فيما يُعرَف في الهند بالـكرما يوغا karma-yoga – يوغا العمل؛ وقوامه رياضة يومية دائمة تستهدف سيادة المرء على حواسه وأهوائه وشهواته، بواسطة الاكتفاء بالقليل طعاماً ولباساً، والصيام البدني والنفسي، والطهارة – طهارة القلب والبدن – والصلاة، وجمع الحواس، والصمت الداخلي (نذر غاندي يوم الاثنين من كلِّ أسبوع يوم صمت)، وعدم التعلق بنتائج العمل، نجاحاً أو فشلاً، والزهد في ثماره، بل تقديم هذا العمل قرباناً للإله. فمن شأن هذه الرياضة أن تشحذ الملكات الفكرية والنفسية والبدنية للمرء، وتُحرِّرها من ربقة الأنانية، بما يجعلها أداة حاضرة طيِّعة لاستقبال التحول الروحي الداخلي وإنفاذ إلزاماته القاهرة في الحياة العملية. ومع ذلك فقد ترك غاندي هامشاً للضعف البشري: "المحبة والاستئثار بالملكية لا يجتمعان [...]. الجسم هو آخر ما نملك. لذا فإن المرء لا يقدر أن يحب محبة كاملة وأن يزهد في كلِّ ملكية ما لم يكن مستعداً لقبول الموت والتضحية بجسمه في سبيل الإنسانية. لكن هذا يصحُّ نظرياً وحسب. أما في الواقع فلن نقدر أن نحب محبة كاملة لأن الجسم، باعتباره ملكيَّتنا، سيبقى معنا. سيظل الإنسان ناقصاً، وسيكون قدرُه دوماً أن يتشوَّق إلى الكمال."

يبقى أن نذكر، بهذا الصدد، أن غاندي تأثر بشخصين كان لهما بالغ الأثر في حياته الروحية: بوتليباي، أمه، التي طبعت سمتها في تديُّنه منذ صباه، ورايتشاندبهاي، الصائغ الثري في مومباي، الذي كان لغاندي، بثقافته وتديُّنه العميق ومعرفته المدهشة بالمذاهب الهندوسية، بمثابة مرشد روحي حقيقي.

هكذا تكلَّم غاندي انطلاقاً من مبادئ الأخلاق، والضمير، والدين (مستبعداً كل ألوان المذهبية والتعصب). وقد ألهمته هذه التعاليم بكتابة مؤلَّف شخصي باللغة الكوجاراتية بعنوان الحكم الذاتي للهند (هند سواراج، 1908)، معيداً فيه النظر منهجياً في قيم المدنية الغربية (سيادة الآلة، التنظيم الاجتماعي–المهني، مناهج العمل السياسي)، وعاكساً صدى الأفكار التي شغلته حتى مماته. (هذا لا يعني أن أفكار غاندي جامدة، بل هي على العكس ديناميَّة، متجددة على الدوام.)

أطلق غاندي على برنامج المقاومة اللاعنفية الجماهيرية الذي وضعه اسم ساتياغراها satyāgraha (ساتيا = "حقيقة"، وأغراها = "قبض")؛ وهذا المصطلح بالسنسكريتية يعني تقريباً "الاستمساك بالحقيقة" (ترجمه غاندي بـ"القوة النابعة من الروح"، بينما حاول لويس ماسينيون نقل معناه بـ"المطالبة المواطِنية بالحقيقي" revendication civique du vrai). فبما أن الكذب والظلم الناجمين عن الأنانية البشرية يحجبان، بعنفهما، الحقيقة التي فُطِر عليها الإنسان فإن الـساتياغراها لن تقاوم العنف بعنف مماثل. هنا يأتي دور مفهوم أهمسا ahimsā (أ = أداة نفي، وهمسا = أذى) الهندوسي القديم – النابع من المفهوم الأول – الذي تبنَّاه غاندي والذي، برأيه، هو أول قوانين الحياة. أهمسا هو، بالدقة، "كفُّ الأذى" عن كل المخلوقات، وهو، تعميماً، الرحمة أو المحبة. وحده اللاعنف، بنظر غاندي، قادر على استعادة الحقيقة. وقد كتب بهذا الصدد: "ساتياغراها ليس العصيان المدني حصراً، بل سعي هادئ لا يقاوَم إلى الحقيقة." لقد كانت الحقيقة طوال حياة غاندي كلها هاجسه الأوحد، كما يعكس عنوان سيرته الذاتية: سيرة حياة: قصة تجاربي مع الحقيقة. والحقيقة بنظر غاندي لم تكن مطلقاً مجرداً مبهماً، بل مبدأ ينبغي اكتشافه اختبارياً في كل حالة على حدة. الحقيقة، في خبرته، هي الغاية واللاعنف هو وسيلتها. من هنا فقد اهتم بصفة خاصة بالوسائل المستعمَلة لبلوغ الغاية، مؤكداً أن الوسائل تصنع الغاية بالضرورة. لذا يتخذ اللاعنف عدة أساليب لتحقيق أغراضه، منها الصوم، والمقاطعة، والاعتصام، والعصيان المدني، والترحيب بالسجن إذ حصل، ورباطة الجأش أمام الموت. كتب أيضاً: "اللاتعاون ليس حركة تبجح ولا هو تظاهُر. إنه امتحان لإخلاصنا. على أتباعه أن يعقدوا العزم على التضحية بأنفسهم. إنه نداء موجَّه إلى صدقنا وإلى مقدرتنا على العمل من أجل الأمة وحركة تهدف إلى ترجمة الأفكار إلى أفعال [...]. من يمارس اللاتعاون يسعى إلى لفت الانتباه وتقديم القدوة الحسنة، ليس بالعنف لكنْ بالتواضع الراغب عن الظهور. فهو يترك عمله المكين ينطق عن إيمانه، وقوته تكمن في ثقته بعدالة قضيته [...]. الكلام، خاصة إذا نطق عن غرور، يشي بنقص في الثقة [...]. لذا فإن التواضع هو مفتاح النجاح السريع." هذا مردُّ دعوة غاندي أتباعَه إلى الانتصار بالمحبة، لأن من شأنها وحدها أن تعطي الساتياغراهي المنعة الروحية، والتواضع، والإقدام، والاستعداد للتضحية من أجل رفع الظلم (= الظلمة) عن الذات وعن الخصم. صحيح أن غاندي يشترط لنجاح هذا النهج تمتُّع الخصم ببقية من ضمير وحرية تمكِّنه في النهاية من فتح حوار موضوعي مع خصمه، لكنه لم يفقد لحظه إيمانه بأنه لا يوجد إنسان واحد على الأرض يعدم هذه الصفات تماماً.

*

من هذه المنطلقات قرر غاندي إنشاء تعاونية مشاعية مؤلفة من المقاوِمين المدنيين، أطلق عليها اسم "مزرعة تولستوي"، تيمُّناً بمعلِّمه الكبير، مستبدلاً بثيابه الأوروبية زياً هندياً. وهناك عكف على القيام بأشغال يدوية من أجل العمال غير المأجورين من الطوائف الخارجية وشجَّع كاستورباي على القيام بذلك أيضاً. ويعود إلى تلك الفترة تمرُّسه على الصيام. وفي عام 1906 نذر وزوجَه العفة بعد أن رُزِقا أربعة أبناء، وأشاد بـبراهماتشاريا (= نذر العفة) وسيلة لضبط النسل وللطهارة الروحية، وبدأ أيضاً يحيا حياة فقر إرادي. وعلى الصعيد السياسي، أسَّس صحيفة الرأي الهندي التي صارت لسان حاله.

في جنوب أفريقيا تعرض غاندي مراراً للضرب وسُجِن وأوشك أن يُعدَم إعداماً تعسفياً. ومع ذلك كلِّه فقد طبَّقت الجالية الهندية هناك مبدأ "القوة النابعة من الروح" بنجاح اضطر الحكومة إلى رفع مظالم كثيرة عن رقاب الهنود. فكان من إنجازاته القانونية الأخرى في أفريقيا إصدار قانون يرخِّص الزيجات الهندية (بعد أن كانت الزيجات المسيحية وحدها مرخَّصة)، وإلغاء ضريبة كانت مفروضة على العمال المتعاقدين الهنود، ومحاربة مشروع قانون يحرم الهنود من حق التصويت – مؤسِّساً بذلك عام 1894 مؤتمر ناتال الهندي الهادف إلى الدفاع حقوق العمال الهنود – وكذلك مشاريع القوانين الخاصة بتحديد الهجرة. صحيح أنه حصل للهنود من الجنرال سْمَتْس على إلغاء العديد من القوانين الجائرة، لكن أهم إنجازاته إطلاقاً كانت إعادة الثقة إلى أبناء الجالية الهندية المهاجرة، وتنمية إحساسهم بكرامتهم الإنسانية، وتخليصهم من عقدتي الخوف والنقص.

وعلى التوازي، اهتم غاندي بالتهذيب المعنوي والخلقي – بادئاً بنفسه. لقد كان يعتبر بأن أحد أسباب العداء والنظرة الدونية اللذين يكنُّهما البيض للهنود هو نوع من الصفاقة وعدم الاكتراث بالهندام، وحتى القذارة البدنية، لدى قسم من الجالية الهندية. من هنا اهتمامه الشديد بالطهارة، خلقية كانت أم بدنية (لقد قرَّب طريقة البيض التمييزية في معاملة الهنود من طريقة الهندوس الطائفيين في معاملة "المنبوذين").

على الرغم من مناوئته للحكومة، لم يستنكف عن مناصرتها وقت الأزمات والشدائد – إذ نظَّم مجموعات من المتطوعين الهنود خدموا كممرضين إبان الحرب ضد البووِر والحرب العالمية الثانية – لأنه كان يرى بأن الهنود لم تكن تحق لهم المطالبةُ بحقوق الرعايا البريطانيين ما لم يتحمُّلوا واجباتهم ومسؤولياتهم كاملة كمواطنين. وقد كتب بخصوص الواجب: "المصدر الحقيقي للحقوق كلِّها هو الواجب. إذا قام كل منا بواجبه فإن الحقوق سوف تتوطد من تلقاء ذاتها [...]. العمل هو الواجب، والحق هو ثمرته."

2.    المهاتما (1915-1948)

المصلح الاجتماعي

في كانون الثاني من عام 1915، بعد إنجازه مهمتَّه في جنوب أفريقيا، عاد غاندي إلى الهند بعد إقامة قصيرة في بريطانيا. وقد أطلق عليه رابندرانات طاغور لقب "مهاتماجي" الذي عُرِف به مذ ذاك. وإبان السنوات الأولى التي تلت هذه العودة انخرط غاندي في نشاطات متعددة. لقد كان وضع الهند مزرياً يعجُّ بالمظالم الاجتماعية: بؤس يكاد يكون معمَّماً (ولاسيما في الريف)، الوضع الاجتماعي والتعليمي المتدنِّي للمرأة، وضع المنبوذين، والتعصُّب الديني الأعمى الذي يغلب على العلاقات بين الهندوس والمسلمين.

بدأ غاندي أولاً (1916-1917) بمسح ميداني شامل للريف الهندي، كان من نتائجه أنه ناضل لتحسين المصير البائس للفلاحين الذين كانوا يزرعون النيلة لحساب المُلاك الأوروبيين في منطقة تشامباران، وتصدى للدفاع عن اليد العاملة في صناعة النسيج في أحمد آباد. في كلتا الحالتين استعمل غاندي اللاعنف والعصيان المدني والصوم، ولاسيما في إضراب أحمد آباد الذي استهدف الضغط على أرباب العمل، بمخاطبة قلوبهم، وعلى العمال، الذين كانت عزيمتهم قد بدأت تلين؛ وفي كلتا الحالتين تُوِّج جهاده بالنجاح. في أثناء ذلك كان الناسك الوديع، مرتدياً الـدهوتي وطاعماً كأفقر الفقراء، معلناً أن العمل اليدوي لا غنى عنه لمن يريد أن يسير على صراط الحق، يكسب ملايين القلوب في فترة جيشان عظيم، حاثاً إياهم على المقاومة وعلى التجدد الروحي. قال: "إن استغلال الفقراء لا يُزال بالقضاء على بضعة أثرياء، بل بتعليم الفقراء الذين يجب تلقينهم عدم التعاون مع سادتهم. فمن شأن هذا أن يوقظ السادة أيضاً. لا بل إني أتنبأ بأن هذا الإجراء سوف يؤدي إلى جعلهم جميعاً شركاء متساوين. رأس المال ليس شراً بحدِّ ذاته، إنما استعماله الشرير هو الذي يجعل منه شراً." لقد وجَّه كلامه لفرد هندي حرٍّ جديد، وقال للهنود بأن الأصفاد التي تكبِّلهم هي من صنعهم، وأمَّلهم بالفوز بحرية أكبر. وقد أنشأ، كما فعل إبان حرب البووِر، فرقة إسعافية من الطلاب الهنود لمساعدة الجيش البريطاني.

العصيان والعودة إلى القيم القديمة

لكن البريطانيين، رغم تقديمهم بعض التنازلات لمطالب الوطنيين، فرضوا في الوقت نفسه إجراءات قمعية جديدة. ففي آذار عام 1919، سنَّت بريطانيا مرسوم رووْلات الذي مدَّد إلى فترة ما بعد الحرب قمع حريات الكلام والصحافة والاجتماع. عندئذٍ فإن غاندي، الذي ظل حتى ذلك الوقت موالياً للـراج (= السلطان) البريطاني (في عام 1918 شارك، بناءً على طلب نائب الملك، في مؤتمر الحرب في دلهي)، ما لبث أن بدأ يناوئه وقاد الحركة الوطنية بفعالية لم يبلغها أسلافه. كان هدفه المباشر: معارضة القوانين الجائرة بنهج الـساتياغراها.

ولكن حتى قبل أن يتخطى الـساتياغراها الشوط التمهيدي – ألا وهو القيام بيوم صلاة يعلَّق خلاله كل نشاط اقتصادي (هرتل hartal) – تسببت دعوة غاندي إلى المقاومة اللاعنفية في أعمال عنف، حيث اندلعت أعمال شغب في دلهي، ومومباي، في البنجاب ومقاطعات أخرى، بلغت ذروتها في إحراق مخفر للشرطة. وقد بلغ شعور غاندي بالأسى مبلغاً جعله يحمِّل نفسه مسؤولية كل ما جرى، فأجَّل الـساتياغراها، وإذ لام نفسه على عدم تبصُّره بأن الشعب لم يكن مستعداً بعد لإدراك مبادئه، فرض على نفسه ثلاثة أيام صوم تكفيراً عن هذا الذنب.

*

إبان هذا الأسبوع نفسه وقعت حادثة في البنجاب كانت نقطة انعطاف في تاريخ الهند. كانت الحكومة قد منعت لتوِّها كل شكل من أشكال التجمع العام؛ لكن حشداً من 10000 شخص ونيف تجمهر في 13 نيسان 1919 في باحة مغلقة في أمريتسر، تحدياً لهذا القرار – وربما جهلاً به. وصل يومئذٍ الجنرال ريجينلد داير، الضابط البريطاني من المدرسة المتشددة، على رأس مفرزة، وطلب من رجاله أن يتخذوا موقعهم عند المخرج الوحيد للباحة وأمرهم بإطلاق النار على الجمهور. كان تبريره فعلتَه للمحققين بعد الحادثة أن نيَّته كانت "إحداث وقْعٍ كافٍ". استشهد يومئذٍ 379 شخصاً على الأقل وجُرِحَ أكثر من 1200. وقد زايدت الحكومة على هذه الفعلة بإعلان الأحكام العرفية وبإذلال فاضح لسكان أمريتسر – إذ أُمِرَ سكانُ المدينة، على سبيل المثال، بالتجول زحفاً على البطون.

وإذ شعر الهنود بعجزهم المادي أمام البطش البريطاني، وجد من كان منهم ذا حسٍّ سياسي ناضج أن برنامج غاندي في المقاومة اللاعنفية أضحى أملهم الوحيد. كان واحد من هؤلاء هو الشريف الشاب جواهرلال نهرو الذي انتسب إلى المؤتمر الوطني الهندي بعيد عودته من إنكلترا. وبهذه الحركة ساعد نهرو هنود كثيرين متشرِّبين للثقافة الغربية على حسم ترددهم أمام البعد الروحي الصريح للمذهب الغاندي.

كان لمنزلة غاندي في قلوب الناس دور حاسم في ريادته للمؤتمر (ائتلاف من مختلف الجماعات الوطنية) في جلسة عام 1919. كانت أحداث 1919 في نظره حاسمة؛ فشعر بضرورة أن يكرس جماع قواه للعمل السياسي من أجل الاستقلال، مسلحاً بثلاثة حجج: مرسوم رووْلات، مجزرة أمريتسر، وحركة "الخلافة" (حركة احتجاج المسلمين الهنود الذين تخوفوا من فرض الحلفاء على تركيا شروطاً للسلام قاسية). وفي عام 1920 صوَّت كلا المؤتمر والرابطة الإسلامية (التي تأسَّست لكي تقطع الطريق على انفراد المؤتمر بتمثيل الحركة الوطنية) متبنِّيين البرنامجَ الغاندي في اللاتعاون اللاعنفي ابتغاء نيل الـسواراج swarāj (= الحكم الذاتي، الاستقلال). وبذلك أصبحت الحركة الوطنية حركة جماهيرية. لقد خَلُصَ غاندي "بعد لأي إلى أن الصلة مع الإنكليز جعلت الهند أعجز مما كانت عليه في أي يوم مضى، سياسياً واقتصادياً." لكن حرية الهند لم تكن في نظره مجرد مسألة سياسية، لأنه "ساعة تتطهر الهند تصبح حرة، وليس قبلئذٍ بلحظة." كما كتب: "يود البريطانيون أن يجري القتال بطلقات الرشاشات [...]. لذا فإن الوسيلة الوحيدة لضمان انتصارنا هي أن نفعل ما من شأنه أن ينقل المعركة إلى مجال نملك نحن السلاح فيه فيما هم يعدمونه."

وهكذا ردَّ غاندي على تعنُّت بريطانيا باللاتعاون مع المحاكم والمحلات والمدارس البريطانية؛ الأمر الذي اضطر الحكومة إلى إعلان إصلاحات مونتاغو–شلمسفورد. وفي عام 1922 حوكِم غاندي وحُكِم عليه بالسجن مدة 6 سنوات، ثم أطلِق سراحه لإجراء عملية عاجلة لاستئصال الزائدة الدودية (تلك كانت آخر مرة يُحاكَم فيها).

*

أوضح غاندي، بما لا يدع مجالاً للبس، أن اللاعنف ليس عجزاً أو ضعفاً، ذلك لأن "الامتناع عن القصاص ليس عفواً ما لم تكن القدرة على القصاص موجودة أصلاً" (هند سواراج)؛ وهو كذلك لا يعني الاستكانة للظلم عن خوف أو عن جبن: "أهمسا والخوف لا يجتمعان." (الهند الفتاة) بل ذهب حتى تفضيل العنف على الجبن والخنوع: "إنني قد أخاطر باستعمال العنف ألف مرة بدلاً من خصاء عرق بشري بأكمله." (هند سواراج) وكتب أيضاً: "أفضل أن تلجأ الهند إلى السلاح دفاعاً عن شرفها على أن تصير أو تبقى، عن جبن، شاهدة عاجزة على هوانها. لكنني أعتقد أن اللاعنف أسمى من العنف بما لا يقاس، وأن العفو أكثر شهامة من القصاص [...]. لكن العفو لا يمكن أن يُمنَح إلا عند وجود المقدرة على القصاص؛ فهو يعدم المعنى إذا أتى من عاجز [...]. لكني لا أحسب أن الهند عاجزة. ولا أعتبر نفسي مخلوقاً عاجزاً. إنما أريد أن أستعمل أسلحة الهند وقوتي أنا في سبيل غاية أسمى." بذلك خرج غاندي، منذ البداية، من الدروب المطروقة.

إن الردَّ على العنف بالعنف – عنف البشر وعنف المواقف إجمالاً – لا يمكن إلا أن يضاعِف الشر – وإن نجم عنه في الظاهر مكسبٌ آني. فبما أن الغاية هي العثور على حقيقة يحجبها عنفُ البشر، أو إظهار حقيقة ما تزال غير منطوق بها لكنها معرضة للتلاشي، فإن الدرب الأوحد الممكن هو الدرب الذي يُحبِط مساعي العنف. ينطوي اللاعنف، إذن، على تقدير للمخاطر من أينما أتت، على قوة معنوية قادرة، من حيث الإمكان، على النضال بالعنف إذا انعدمت الخيارات الأخرى تماماً؛ لكنه ينطوي أيضاً على قوة إضافية، على تجاوز للعنف، وعلى تركيز بطولي على أن الرهان الحقيقي في أي صراع ليس الفوز بالنصر، بل الإخلاص للحقيقة.

من هنا ينطلق ديالكتيك اللاعنف الذي لا يمت إلى ديالكتيك كلٍّ من هيغل وماركس بصلة؛ إذ إنه ديالكتيك حرية، وليس ديالكتيك الضرورة التاريخية. إن وظيفة أهمسا العليا هي تنبيه الخصم إلى مسؤوليته. بالمقاطعة، والصوم، وقبول السجن، وحتى التضحية بالنفس، لا يبقى للخصم من مخرج إلا في أن يعي أنه متواطئ على وضع غير مقبول إنسانياً؛ وبما أن الساتياغراهي لا يريد الخسائر، بل يكابدها، فإن تواطؤ الخصم على الجور يتضخم وينفضح. إن الساتياغراهي، بامتناعه عن أيِّ عدوان، لا يتضامن مع العنف، بل يستدعي بقية الحرية التي ما تزال سليمة في نفس خصمه؛ إنه بذلك ييسِّر على الأقل لهذه الحرية، إذا ما كانت ناجية، ألا تتذرع بشيء يحول بينها والمواجهة الداخلية – لا بل "يرغمها" على هذه المواجهة، إذا جاز التعبير – بحيث يمكنها عندئذٍ أن تبادر إلى الحوار. وباختصار، يفتح اللاعنف للآخر طريق الرجوع عن خطئه. ويمكن لمناخ من الموضوعية عندئذٍ أن يقرِّب بين وجهات النظر بغية التفاهم أو التكامل، باسترداد الحقيقة الضائعة أو باكتشاف حقيقة كامنة. هذا التجاوز للعنف يمضي غاندي به حتى نسيان التوتر وجروح المعركة: "العفو حلية المجاهد." (السيرة الذاتية) هذا الفيض من الشهامة هو الذي جعل غاندي يستحق فعلاً لقب "مهاتما" الذي أسبغه عليه طاغور.

بذلك نفهم أن مثل هذه الصولة ليس وصفة جاهزة، ولا هو وسيلة للنجاح: إنه مخاطرة. لكن هذه المخاطرة لا يستطيع أن ينهض لها إلا الذي لا يتخذ اللاعنف سلاحاً خارج نفسه. الشهادة تساوي الشاهد؛ فإذا لم يكن قد جاهد "جهاده الأكبر" (النبي محمد) وسيطر أصلاً على كلِّ عنف في نفسه، ولم يربِّ نفسه على روح السلام، لن يتحلَّى أبداً بتلك الجسارة الرصينة الهادئة التي تضع موضع التطبيق مقولة "إذا ما كنت ضعيفاً كنت قوياً" (بولس الرسول). من هنا تنبع أهمية الـبرهماتشاريا وصلتها الوثيقة بكل من أهمسا وساتياغراها.

اللاعنف، إذن، سلوك سياسي لا ينفصل عن موقف روحي داخلي؛ فمن شأن مثل هذا الفصل أن يشوِّه تعليم غاندي. لذا فإن غاندي المرشد الروحي هو هو غاندي محرِّر الهند. وهو، إذ أدَّب جماهير الهند على جعل عوامل عبوديتها عواملَ تحرر، كشف لها أن التحرر يقوم على أيدي المسحوقين. بذلك يصير العجز سلاح الانتفاضة الشعبية الفعَّال المطلق. ففي وقت كان لينين فيه عام 1917 يكتشف ثورة البروليتاريا بالعنف المسلَّح، كان غاندي، بطريقته الناصعة الفريدة، يكتشف الثورة باللاعنف.

*

شهد العالم في ربع القرن الذي أعقب هذه الأحداث أغرب مواجهة عرفها التاريخ قط: فمن جهة، وقف عملاق الإمبراطورية البريطانية الجبار، يمثله نائب الملك محاطاً بقوة عسكرية ذات طَوْل؛ ومن جهة أخرى، المهاتما اللطيف، كما مثَّله رسامو الكاريكاتير، منكباً على دولاب مغزله، عاري الصدر، مئتزراً بحِقائه. تشكل موضوعة الإنسان مقابل الآلة ركناً آخر في فلسفة غاندي العملية. ذلك كان المبدأ المحرِّك للـخادي (= القماش القطني المحلِّي) ولحركة الـسواديشي (= الاعتماد على الذات) التي دعا فيها غاندي الهنودَ إلى غزل ثيابهم ونسجها بأنفسهم بدلاً من الاعتماد على البضائع الإنكليزية (خاصة: 1925-1927 و1932-1935).

لقد كان قصده ضرب عصفورين بحجر واحد: إصابة بريطانيا في تجارتها الخارجية؛ والترويج لتصنيع وبيع المنتوجات اليدوية المحلية. كان هذا الهدف يتضمن مزايا عدة: تحسين مستوى المعيشة في القرى (بإيجاد عمل للملايين من الفلاحين الهنود إبان شهور الخمول الطويلة)؛ إيجاد تضامن بين المدن والأرياف (بتشجيع أهالي المدن على شراء الـخادي)؛ وإعادة الاعتبار للعمل اليدوي (وفي هذا أظهر غاندي نجابة فذَّة كتلميذ لرَسْكِن). لقد استحسن غاندي مثال الاكتفاء الاقتصادي للقرية. وقد واحَد ما بين التصنيع والمادية، شاعراً أنه خطرٌ يهدد بسلب الإنسان إنسانيتَه ويحكم عليه بالعقم الروحي. من هنا كان الإنسان الفرد – وليس المردود الاقتصادي – هو مناط همِّه المركزي؛ إذ لم يفقد قط إيمانه بالخير الذي فُطِرَت عليه الطبيعة الإنسانية.

غاندي "عازفاً" على دولاب المغزل.

بيد أن القتال لم يكن غير متكافئ كما يُظَنُّ: كان الرجل الصغير مدججاً فعلاً بأسلحة – معنوية بالطبع – من شأنها أن تُنزِل بالخصم ضربات موجِعة. كان البريطانيون يجدون أنفسهم في وضع حرج جداً كلما سكب غاندي عليهم نور محبته، كلما استلقى أنصاره على سكك الخطوط الحديدية، وكلما كدَّس ساتياغراهيون آخرون أحجار التبليط أمام المحلات البريطانية. وفي كلِّ مرة كانت هذه الاحتجاجات تفضي إلى أعمال عنف كان غاندي يلغي الحملة ويكفِّر عن تعدِّيات أتباعه بصوم جديد.

رجال من أنصار نهج غاندي اللاعنفي يسدُّون بأجسامهم الخط الحديدي.

الصوم ومسيرة الاحتجاج

كان التكنيك الآخر الذي استعمله غاندي هو الصوم. لقد كان راسخ الإيمان بأن الوحدة الوطنية بين الهندوس والمسلمين أمر طبيعي؛ فقام صائماً مدة 21 يوماً لتقريب الملَّتين؛ كما صام أيضاً لدى إضراب عمال المطاحن في أحمد آباد.

غاندي وسط أتباعه (على اليمين تُشاهَد الشاعرة الهندية الكبيرة ساروجيني نايدو) إبان "مسيرة الملح" عام 1930. لقد شجعت المسيرة فقراء الهند، باحتجاجها على ضريبة البريطانيين على الملح، على إنتاج ملحهم من ماء البحر.

بحلول عام 1930، نظَّم غاندي، برفقة 78 مريداً، "مسيرة ملح" مدتها 24 يوماً نحو البحر احتجاجاً على احتكار الحكومة لتصنيع الملح وفرضها ضريبة على الملح الذي يستعمله الهنود، الأمر الذي كان يشكل عبئاً باهظاً على الفلاحين الفقراء. وقد سار عدة آلاف من السائرين مسافة 241 ميلاً حتى بلدة دَنْدي الساحلية، حيث قبض المهاتما على حفنة ملح ورفع يده بها عالياً متحدياً الحكومة. وقد أطلقت هذه الحركة الرمزية انتفاضة وطنية شاملة قام فيها فلاحون كثر بإنتاج الملح إنتاجاً غير مشروع، بينما قام متطوِّعو المؤتمر ببيع الملح المهرَّب في المدن.

لقد كان من آثار المسيرة أنْ تعزَّز اعتقادُ الوطنيين في إمكان الاستهانة بالحكم الأجنبي والاستغناء عنه. فكان ردُّ الحكومة اعتقال 60000 منهم، بمن فيهم غاندي نفسه. لكن غاندي في السجن لم يكن يقل إحراجاً للسلطات البريطانية منه طليقاً. ولقد شلَّت الانتفاضةُ المتناميةُ الإدارةَ، بما اضطر الإنكليز – الذين وعَّتهم الحركة أكثر إلى أي حدٍّ كانوا يخضِعون الهند – في النهاية إلى الإفراج عن غاندي وغيره من زعماء المؤتمر وإلى التفاوض معهم.

لقد تحلَّى غاندي بمرونة سياسية لم تخلُ من تقديم بعض التنازلات التي تخفف الحرج عن الخصم وتيسِّر له شيئاً من حرية الحركة لمراجعة نفسه. ففي أيلول عام 1931 تفاوض غاندي في دلهي مع نائب الملك، اللورد إروِن، على ميثاق يلغى بموجبه العصيان المدني (لم تتقيد الهند بهذا التنازل في الواقع)، ويُفرَج عن السجناء، ويجاز تصنيع الملح على الساحل، ويحضر حزبُ المؤتمر المائدةَ المستديرة الثانية في لندن. وقد حضر غاندي بوصفه الممثِّل الوحيد عن المؤتمر. وفي إنكلترا أعلن ونستون تشرتشل، المتزلِّف المرموق للإمبراطورية البريطانية ("التي لا تغيب عنها الشمس"!)، رافضاً لقاء غاندي، أن "من المنذر، وحتى من الباعث على السخط، رؤية السيد غاندي، المحامي المشاغب الرديء، منتحلاً الآن شخصية الفقير الذائعة الصيت في الشرق، يصعد شبه عارٍ سلالم قصر نائب الملك [...]، لكي يتحادث مع ممثل الملك–الإمبراطور محادثة الندِّ للند." مع ذلك فقد توالت المحادثات؛ وللمرة الأولى – رغم الفشل الذريع الذي تمخَّضت عنه المائدة المستديرة – اضطرت بريطانيا إلى مخاطبة الهند – أو بالأحرى أحد الهنود – على قدم المساواة معها.

غاندي يصل إلى 10 شارع داوننغ، مقر رئاسة الوزراء البريطانية في لندن، للتحاور مع رئيس الوزراء رامزي مكدونلد.

*

من القضايا الأخرى التي اعتنقها غاندي تحسين حال "المنبوذين" – أعضاء الطوائف الدنيا – الذين أطلق عليهم اسم هارِجان Hārijān (= "أبناء الله") واعتبر وضعهم المزري سُبَّة في جبين الهند، لا تليق بأمة تسعى لتحقيق الحرية والاستقلال والخلاص من الظلم؛ فالـسواراج، برأيه كان متعذراً ما دام هذا التمييز موجوداً. وقد تصاعد جهاده عندما قررت بريطانيا بعد المائدة المستديرة الثانية تسجيل الـ 50 مليوناً من المنبوذين في قائمة انتخابية على حدة. ففي 20 أيلول 1932، بعد فشل مراسلته مع الحكومة وتبنيها القانون، بينما كان في سجنه، شرع في صيام "حتى الموت" احتجاجاً على قرار الدولة هذا الذي رأى فيه تكريساً نهائياً لمنزلة المنبوذين الاجتماعية المتدنية (وبهذا واجه زعيمهم د. بهيمراو أمبدكر الذي كان يؤيِّد انتخابات منفصلة كضمانة سياسية لتحسين حالهم). وفي اليوم السابع، بينما كانت الهند بأسرها، مشدودة صامتة، تتابع تدهور حالة غاندي الصحية، وبعد أن تمكَّن القادة والزعماء الدينيون بصعوبة من ثني أمبدكر عن موقفه، قَبِل البريطانيون بالتنازل الذي وضع حداً لخطر التمييز السياسي بين المنبوذين وهنود الطوائف وتم التوصل إلى ميثاق بونا الذي قضى بزيادة عدد المقاعد المخصصة للنواب المنبوذين وإلغاء نظام التمييز الانتخابي. وكنتيجة لصوم غاندي فُتِحَت بعض المعابد لطوائف خارجية للمرة الأولى في تاريخ الهند. وقد تواصل جهاد غاندي هذا: رمزياً عبر مقالاته في أسبوعيَّته هارجان، وفعلياً بضغطه، اعتباراً من عام 1937، على الوزراء المؤتمريين لكي يلغوا قانونياً التشريعات التي تحدُّ من تحسين وضع المنبوذين.

*

كان نفوذ غاندي بين الهنود يقوم على التماسه للمُثُل القديمة للحكمة الأزلية، كما تجلَّت في الهندوسية. لكن هذه القوة كانت تنطوي على خطر ما لبث أن ظهر: أثار تأثير الأغلبية الهندوسية على المؤتمر شكوك ومخاوف المسلمين الذين توجَّسوا – بإيعاز من البريطانيين، كما نظن – من القوة المتعاظمة للهندوسية المجاهدة المستيقظة من سباتها. فاعتباراً من عام 1916، اقتصر الاتفاق بين الرابطة الإسلامية وبين المؤتمر على الإجماع على مسألة الاستقلال الذي كان كلاهما يطالب به، وعلى مسائل ثانوية، مثل إلغاء الخلافة الإسلامية.

غير أن الوفاق ما كان ليدوم. فمنذ عام 1920، يوم وافق المؤتمر على برنامج اللاعنف الغاندي، استقال من المؤتمر الزعيمُ الإسلامي محمد علي جناح (1876-1948) الذي كان من قدامى المنتسبين إليه. كان جناح، الذي تلقى تعليماً بريطانياً تقليدياً، محامياً في مومباي، كالحاً، متغرِّباً، لامعاً، ظاهر العنجهية أحياناً. ومع أنه لم يكن مسلماً متزمتاً، ولا حتى متديناً ورعاً بصفة خاصة، فقد آلت إليه زعامةُ الرابطة الإسلامية، وسرعان ما صار المنافس السياسي لغاندي.

قبل حلول عام 1924 كانت مسألة الخلافة محسومة – فالزعيم التركي الشاب مصطفى كمال ("أتاتورك") كان قد أبطل هذه المؤسَّسة – وتلاشت معها الآمال في الوحدة الوطنية بين المسلمين والهندوس. وفي عام 1928 أصدر المؤتمر مشروعاً يوصي بإنشاء إدارة مركزية، ففسَّر بعض المسلمين بنوده تفسيراً مفاده أن حقوقهم لم تكن مأخوذة فيه بالحسبان بما يرضي. وقد رأى جناح في هذا المشروع ما يؤكد "مخاوفه" بأن يصير 80 مليون مسلم هندي أقلية مضطهَدة لا يؤبه بها في هند جَلَتْ بريطانيا عنها، فيها 250 مليون غير مسلم. من هنا طالب جناح بالاستمرار في النظام الانتخابي المعمول به الذي يصوِّت بمقتضاه كل من الهندوس والمسلمين على حدة، ونادى بإقامة نظام فدرالي تتمتع فيه المقاطعات ذات الأغلبية المسلمة بنوع مخفَّف من الحكم الذاتي. وقد فنَّد المؤتمر رأيه بقوله إنه ينسجم مع تكتيك البريطانيين "فرِّق تَسُدْ".

*

جرى تغير سياسي عميق في الهند إبان السنوات التي سبقت الحرب العالمية الثانية. فقد بيَّنت حركة غاندي والنقاشات الحادة التي حرَّضها في لندن مشروع قانون 1935 الذي منح الهنود حكماً ذاتياً محدوداً أن الإمبراطورية لم تكن من المنعة بما كان يُظَن. وهكذا بدأ الوطنيون الهنود رويداً رويداً يفكرون ليس في كيفية إجلاء الإنكليز عن بلادهم وحسب، بل وفي كيفية حكم الهند بعد جلائهم عنها. فكان من نتائج هذا التغير في المنظور تصدُّر الخلاف بين الهندوس والمسلمين للنقاش الدائر آنذاك. ففي عام 1936، عندما حصلت ستة مقاطعات هندية من أصل إحدى عشرة على حكومات مؤتمرية فإن الرابطة الإسلامية ندَّدت بها جميعاً بوصفها دكتاتوريات هندوسية!

كذلك في قلب المؤتمر نفسه كانت خطوط القوى تنزاح. فمع تزايد احتمالات الاستقلال واقترابه ترك غاندي انطباعاً بأنه ينسحب إلى الكواليس. وهكذا قرر عام 1934 الاستقالة من حزب المؤتمر، وجعل حتى 1939 يكرس جلَّ طاقته للتخفيف من بؤس الجماهير، لمساعدة المنبوذين، للترويج للغزل وللتعليم الأساسي، ولتكريس اللغة الهندية لغة وطنية (مع أن لغته الأم كانت الكوجاراتية)؛ كما عمل على تحسين نظام الرعاية الصحية وطرائق الزراعة ووضع مشروعات للتربية الريفية والنهوض بالريف. إبان تلك الستين كان التعاون لصيقاً بين المهاتما وبين جواهرلال نهرو في إطار اللجنة العاملة للمؤتمر. ففي عام 1937 شجع الحزبَ على المشاركة في الانتخابات معتبراً أن الدستور الذي تم التوصُّل إليه عام 1935 يشكل ضمانة كافية وحداً أدنى من المصداقية والحياد.

*

كان نهرو، بين معاوني غاندي في حزب المؤتمر، من الشخصيات المرموقة، بخطابته المفوَّهة وشخصيته الآسرة. كان نهرو براهمنياً من طبقة رفيعة، كشميري الأصل، وهاضماً للثقافة الغربية. والده موتيلال نهرو كان من أغنى وألمع المحامين الهنود ومعجباً أشد الإعجاب بطراز الحياة والتقاليد البريطانية. وفي بيت آل نهرو الفخم في الله آباد نشأ جواهرلال وشقيقاته في جوٍّ عالمي: كانوا مطَّلعين على الثقافة الإسلامية، يتلقون تعليم مدرِّسين إنكليز، ويقرأون كتباً إنكليزية. وبمثل هذا المتاع الذي عزَّزتْه دراساتٌ جامعية في هارُّووْ وكمبردج كان نهرو أقرب إلى البريطانيين من أن يعجب بهم إعجاباً طائشاً. كان متشوقاً إلى هند متحررة من الإمبريالية البريطانية ومن السُنِّية الهندوسية المتزمتة على حدٍّ سواء. ومع أنه كان أقل اهتماماً من غاندي بالأسس الروحية للأخلاق لم يَحُلْ هذا بينه وبين أن يكون من أنصاره المخلصين؛ فسُجِن مرات عديدة إبان حملات المقاومة اللاعنفية الأولى، واعتبره غاندي ابنه الروحي وخليفته، قائلاً فيه ذات مرة: "أعرف شيئاً واحداً، هو أنني بعد أن أغيب سوف يتكلَّم لغتي."

*

كانت الحرب العالمية الثانية إيذاناً ببلورة المعارضة بين بريطانيا والوطنيين الهنود، وكذلك بين غاندي وقسم من المؤتمريين. ففي عام 1939 أعلن نائب الملك، بدون الرجوع إلى لندن، أن الهند في حالة حرب ضد المحور. وقد ردَّ الوطنيون مطالبين بالاستقلال في مقابل التعاون، متذرِّعين بأنْ وحدها هند مستقلة يمكنها أن تشارك مشاركة حرة في الحرب على قوى المحور؛ لكن لندن رفضت مطلبهم. وهكذا، للمرة الأولى، تنصَّل قسم من المؤتمريين من آراء معلِّمهم، موافقين على استخدام العنف المسلَّح، بينما ظل هو وفياً للمقاومة اللاعنفية. وفي أواخر عام 1940 احتجَّ آلاف الهنود – يقودهم غاندي – على الحرب احتجاجاً فردياً وقاموا بحملة عصيان أدَّت إلى اعتقالهم. وقد اتسع هذا العصيان واستمر حتى عام 1941 حيث كانت بريطانيا مشغولة بالحرب ويهمها استتباب أوضاع الهند حتى تكون لها عوناً في المجهود الحربي. ولكن عندما زحفت اليابان على آسيا قامت بريطانيا، الحريصة على ضمان تعاون الهند النشط، بالإفراج عن الزعماء الوطنيين وبدأت تتفاوض معهم، فأرسلت عام 1942 بعثة لهذا الغرض عُرِفَت باسم "بعثة كريبس"؛ لكن جهودها، كما توقع غاندي، باءت بالفشل. لقد كان المؤتمر على استعداد لقبول عرض بريطانيا بنقل كافة السلطات إلى الهنود، ما عدا الشؤون العسكرية، ما دامت الحرب مندلعة. لكن كلا المؤتمر والرابطة الإسلامية رفض المشروع البريطاني في هند مستقلة، لكنْ بعد انتهاء الحرب. لقد رأى المؤتمر بأن تنازلات بريطانيا لم تكن كافية، وبأن وحدة الهند لم تكن مضمونة بما يكفي؛ بينما تخوَّف المسلمون، من ناحيتهم، من المصير الذي ينتظرهم في ظلِّ هند موحَّدة. وفي آب 1942 اقترح غاندي حملة لاتعاون شاملة وخاطب الإنجليز بجملته الشهيرة: "اتركوا الهند وأنتم سادة." وقد صوَّت المؤتمر على قرار "غادروا الهند" Quit India مطالباً بالاستقلال الفوري. وفي لندن زمجر ونستون تشرتشل علناً بأنه لم يكن قد صار "رئيس وزراء جلالة الملك لكي يرأس تصفية الإمبراطورية البريطانية".

كان ردُّ البريطانيين عنيفاً جداً؛ إذ شنت السلطات البريطانية عام 1942 حملة اعتقالات جديدة وأودعت السجن غالبية القادة الوطنيين، بمن فيهم غاندي ونهرو وغيرهما من زعماء المؤتمر، الأمر الذي ألهب أعمال العنف في كل أنحاء الهند احتجاجاً على الممارسات القمعية غير المسبوقة ضد الجماهير. وعندما حاول البريطانيون إلقاء اللوم على غاندي صام ثلاثة أسابيع في السجن؛ لكنه أصيب فيه بالملاريا، مما أرغم السلطات على الإفراج عنه في نيسان 1944 (بذلك أمضى من حياته في السجن ما مجموعه ست سنين).

*

عندما فاز حزب العمل بانتخابات 1945 في بريطانيا لاح استقلال الهند فجأة مرتسماً في الأفق؛ لكنْ في الآفاق الأبعد كمنت مشكلة كيفية توصل الهنود – هندوس ومسلمين – إلى التفاهم على مشروع حكومة مستقلة. عندما خرج غاندي من السجن لم يألُ جهداً في الحيلولة دون قيام دولة إسلامية منفصلة في باكستان كان محمد علي جناح مصراً على قيامها. وقد نصحت بعثة وزارية بريطانية في آذار 1946 بعدم التقسيم (كذا!) واقترحت عوضاً عنه هند موحَّدة ذات برلمان فدرالي. وفي آب، أجاز نائب الملك ويفل لنهرو أن يشكِّل حكومة مؤقتة. اقترح غاندي يومها أن يشغل جناح منصب وزير الدفاع، بل ذهب حتى الطلب من نهرو أن يتنحَّى لجناح عن رئاسة الوزراء، مقابل أن يوافق على الحفاظ على وحدة البلاد؛ لكن جناح رفض وأعلن بدلاً من ذلك في 6 آب "يوم عمل مباشر". ولقد أسفر ذلك اليوم وأيام الشغب التي تلته في كلكتَّا وحدها عن سقوط أكثر من 5000 قتيل و 15000 جريح. ومن هناك انتشر العنف إلى البلاد كلِّها.

أصاب المهاتما من جراء ذلك غمٌّ شديد، فمضى إلى البنغال قائلاً: "لن أغادر البنغال حتى يخمد آخر بصيص للشغب." لكن 4500 آخرين لقوا مصرعهم في بيهار، وهو ما يزال في كلكتَّا. عندئذٍ، أنذر غاندي، البالغ من العمر آنذاك السابعة والسبعين، أنه سيصوم حتى الموت حتى يثوب البيهاريون إلى رشدهم. فذهب إلى نواخلي، إحدى مدن البنغال ذات الأغلبية المسلمة، وقال إنه سيضع مقولة "افعل أو مُتْ" على المحك: فإما أن يتعلم الهندوس والمسلمون أن يحيوا معاً وإما أن يموت كفارة عنهم. ولقد هدأ الوضع هناك، لكن أعمال الشغب تواصلت في أماكن أخرى.

خيبة الاستقلال

بحلول عام 1947 أعلن وزير الخارجية البريطاني كلمنت آتلي بأن بريطانيا ستغادر الهند "في آب 1948 كأقصى حدٍّ". ولكي يمهِّد لانتقال السلطة عيَّن آتلي في منصب آخر نائب للملك في الهند اللورد ماونتباتن الذي وصل إلى الهند في آذار ولعب وزوجَه دوراً غامضاً جداً في تلك الفترة. وقد تشاور نائب الملك مع الجانبين؛ وعندما أعلم نهرو وغيره من قادة المؤتمر أن الرابطة الإسلامية تفضل الثورة على قبول حكومة واحدة تشمل الهند بأسرها، أجابه زعماء المؤتمر، والأسى يحزُّ في نفوسهم، بأن باكستان منفصل خير من العماء، من ناحية، وخير من استمرار الحكم البريطاني، من ناحية ثانية. وهكذا جرى: أُعلِنَت الهند وباكستان دولتين مستقلتين منفصلتين في 15 آب 1947.

غاندي متوكئاً على مريدتين أثيرتين من أقربائه كان يسميهما "عكازيه" إبان جولة محاضرات.

كان الاستقلال بهذه الشروط هزيمة حقيقية بنظر غاندي (وصف التقسيم بأنه أشبه بـ"تشريح كائن حي"!). فقبلئذٍ بوقت طويل، يوم كان ما يزال في جنوب أفريقيا، أعلن بأن "الامتحان الفاصل" لعمله هو تعزيز الوحدة الوطنية بين المسلمين والهندوس. أما الآن فكانت الطائفتان تغليان حقداً، ولم يعد يستمع إلى ندائه من أجل السلام والتآخي إلا ثلة من المريدين المخلصين. لذلك نعت الانفصال بـ"المأساة الروحية" ورفض المشاركة في احتفالات الاستقلال. وللمرة الأولى في حياة غاندي، بدأ أناس عاديون يتعرضون له؛ فكان الهندوس يسبُّونه زاعمين أنه يفضل عليهم المسلمين (لأنه طالبهم بتقديم تنازلات كبيرة للأقلية المسلمة ضماناً لحقوقها)؛ وكان المسلمون يتهمونه بأن يعرقل قيام دولة باكستان المستقلة.

بتر الاستقلالُ حوالى ربع أراضي الهند، وقسَّم كلاً من البنجاب في الشمال الغربي والبنغال في الشرق إلى شطرين. لقد كانت الاضطرابات بين الهند والمسلمين، التي اصطلح البريطانيون على استحياء على تسميتها "فوضى طائفية"، أمراً شائعاً في الهند، لكن تاريخ الهند لم يعرف يوماً ما يشبه حرب الإبادة الأهلية المروِّعة التي نشبت في أعقاب جلاء البريطانيين. فمن جراء الانفصال اقتُلِع 12 مليوناً من البشر من جذورهم وهُجِّروا، وتسبب نزوحهم في مجزرة متبادلة قلما فاقتها مجازر أخرى وحشية وهمجية: صارت سواقي الهند حمراء من دم الهندوس والمسلمين، وفاق عدد القتلى أيامئذٍ الـ500000، فيما لم يُعرَف قط عدد الجرحى والمنتهكات أعراضهن أو المخطوفين إلى الآن.

*

عندما احتفلت نيودلهي بجلاء البريطانيين من الهند في 15 آب، كان غاندي في كلكتَّا حيث ذهب في محاولة لوقف المذبحة. كان يومئذٍ في الثامنة والسبعين، وقد رأى بأمِّ عينه أن عمله على تكريس التآخي بين الهنود الذي دام 32 سنة صار يوطئ بالأقدام، وأن خيانة تعليمه في اللاعنف قد أجهضت عملية الاستقلال كما كان يتمناه. لكن جماهير الهند ظلت على حبِّها له؛ فكانت الحشود تهب لسماعه يتكلم. فمع أن الشعب نبذ مذهبه فقد ظل يعتبره قديساً؛ وفي المناطق التي زارها توقف القتال سريعاً. لكن الزمن كان يعانده؛ إذ قام متطرفون بتحريض شجارات، وانفجرت قنبلة في إحدى اجتماعات الصلاة التي عقدها في نيودلهي. وفي 1 أيلول 1947، عندما اقتحم حشدٌ غاضب من غوغاء الهندوس المنزلَ الذي كان مقيماً فيه في كلكتَّا شرع غاندي في صيام جديد "لا ينهيه حتى تثوب كلكتَّا إلى رشدها". وبالفعل لم يُنهِ المهاتما صومه حتى نال وعداً من زعماء الهندوس والمسلمين كافة بألا تتكرر أعمال القتل.

مريدو غاندي ساهرين عليه إبان صومه الأخير عام 1948. عبثاً احتج غاندي على سوء معاملة الهندوس لـ"إخوانهم المسلمين".

لم ترق دعوات غاندي إلى الإخاء بين الهندوس والمسلمين للكثيرين، واعتبرتها بعض الفئات الهندوسية الأصولية، بتأليب من جهات "مجهولة"، خيانة عظمى. وفي 13 كانون الثاني بدأ غاندي آخر صوم له في دلهي، مصلياً من أجل وحدة الهند. وفي 30 كانون الثاني عام 1948، كان غاندي ذاهباً متأخراً إلى إحدى اجتماعات الصلاة؛ وأمام الحشد الذي كان يطوِّقه كان يضم راحتي يديه مسلِّماً، جرياً على التقليد. عندئذٍ قام هندوسي في الخامسة والثلاثين يدعى ناتورام غودسي، صحافي سابق في صحيفة أسبوعية هندوسية متطرفة في بونا، استطاع أن يشقَّ لنفسه بمنكبيه طريقاً بين الحشد، بإشهار مسدس وأطلق على المهاتما ثلاث رصاصات قاتلة. تمتم غاندي هاي رام ("يا رب!") وأسلم الروح.

الجماهير تنتحب وهي تراقب ألسنة اللهب تحيل جثمان المهاتما رماداً. جرت الجنازة على ضفة الغانج.

***

بين المعترضين على حظوظ الانتفاضة اللاعنفية التي وضع غاندي أسسَها من النجاح هناك مَن يختزلها إلى الظروف الاستثنائية التي سمحت بتحقيقها، حجَّتهم في ذلك أن استعمال الديالكتيك الغاندي كان ممكناً نظراً لأن الهند وإنكلترا كانتا تشكلان، سياسياً واقتصادياً، منظومة مغلقة؛ لكنْ مع العولمة التي تفجر المنظومات المغلقة لم يعد بإمكان هذا الديالكتيك أن يفلح. على هؤلاء نجيب بأن العولمة قد تزيد من حظوظ نجاح اللاعنف، من حيث إن تضامن الشعوب، فيما يتعدى الحدود القومية والدينية، من شأنه أن يضغط على استبداد الحكومات وتعسفها. كذلك فإن العولمة – على علاتها – تنطوي برأينا على أمل حقيقي بانتفاضات لاعنفية إيجابية ضد الحروب، والاحتلال، والتطهير العرقي، وعدوان الدول الكبرى، والهوة السحيقة الفاصلة بين دول الشمال المتقدمة ودول الجنوب التي هي بأمس الحاجة إلى التنمية.

لقد سار على نهج غاندي مريدون له عديدون في كل أنحاء العالم. ففي الولايات المتحدة ناضل القس مارتن لوثر كنغ الابن – شهيد اللاعنف نظير غاندي – ضد التمييز العنصري؛ قال: "فلأتذكر بأن غاية العمل اللاعنفي هي المصالحة والعدل، وليس النصر." وفي البرازيل طلب رجل الدين دون هلدر كامارا، في جهاده ضد البؤس، من حركة "عمل، عدالة، سلام" التي أسَّسها أن تكون "عنف المسالمين". وفي الهند قام أتشاريا فينوبا بهافي، تلميذ غاندي المباشر، ضد إقطاعية مُلاك الأراضي، بحملة للـ"تبرع بالأرض"، منشئاً في إحدى القرى "لواء سلام" من أجل توعية الجماهير إلى ضرورة التضامن الإرادي الواعي. وفي كاليفورنيا منح س. خافيث عمال الكروم المسحوقين حساً بالكرامة وبيَّن لهم أن بالإمكان أن يناضلوا ضد مضطَّهديهم وينالوا حقوقهم. وفي فلسطين المحتلة حاول مبارك عوض أن يؤسِّس المركز الفلسطيني لدراسات اللاعنف، وكان فاعلاً في الانتفاضة الأولى، وزرع بذور حركة لاعنفية نشطة، لكن السلطات الإسرائيلية نفته إلى أمريكا بعد اعتقاله. (هل لنا أن نأمل في ظهور "غاندي" جديد في فلسطين؟...)

يبقى أنه في هذا العالم الذي يتقنَّع فيه العنف كل يوم بوجوه جديدة – تدمير الطبيعة وصيد الأنواع حتى الانقراض، الاستعمال الأرعن للحيوان في التجارب المخبرية، وسائل الإعلام وأفلام العنف، الرياضات "الجماهيرية"، الإدمان المتزايد على المخدرات، تفشي الدعارة المنظَّمة المتعدِّية للجنسيات، ألعاب الفيديو، الإنترنت، الخطر النووي، لعبة الديمقراطية، الإرهاب (الأصولي وغير الأصولي) ومكافحته، بطش القوي مادياً بالضعيف مادياً – من واجب الآخذين باللاعنف نهج حياة، بدون أن يتزحزحوا عن موقفهم الداخلي الأساسي، أن يبتكروا أساليب عمل جديدة، وأن تتفتق عبقرية الحقيقة الكامنة في مذهبهم عن تجلِّيات بكر.

ولا ريب أنه، في حال اقتنعت أقلية رائدة بضرورة اللاعنف المصيرية من أجل نجاة الجنس البشري، لن تستطيع هذه الأقلية أن تشق له درباً في التاريخ، على خطى سقراط والناصري والحلاج وغاندي، إلا بشقِّ النفس وببذل تضحيات جِسام، لا لشيء إلا لأنه لا يفصل جهادَ النفس عن جهاد البشر. فليس عبثاً أنْ قيل في غاندي إنه كان "قديساً بين رجال السياسة، ورجل سياسة بين القديسين".

*** *** ***

دمشق، في 6 تموز 2002

المراجع

-         أديب مصلح، المهاتما غاندي: السياسي القديس، سلسلة النوابغ 1، منشورات المكتبة البولسية، بيروت 1992.

-         جماعي، غاندي: صانع اللاعنف، مركز اللاعنف وحقوق الإنسان، بيروت 1996.

-         ندره اليازجي، "العنف واللاعنف"، الأعمال الكاملة، مج 2، ص 157-192، دار الغربال، دمشق 1998.

-          Bondurant, Joan V., Conquest of Violence: The Gandhian Philosophy of Conflict (rev. ed. 1965).

-          Erikson, Erik H., Gandhi’s Truth: On the Origin of Militant Nonviolence (1969).

-          Fisher, Louis, Gandhi: His Life and Message for the World (1954).

-          Fisher, Louis, The Life of Mahatma Gandhi (1950).

-          Gandhi, M. K., An Autobiography: The Story of My Experiments with Truth (1966).

-          Gandhi, M. K., For Pacifists (1949).

-          Gandhi, M. K., Lettres à l’Āshram, trad. Jean Herbert (1948).

-          Gandhi, M. K., Leur civilisation et notre délivrance (Hind Svarāj) (1957).

-          Gandhi, M. K., Satyagraha in South Africa (rev. 2nd ed. 1961).

-          Gandhi, M. K., Tous les hommes sont frères (Unesco, 1969).

-          Herbert, Jean, Ce que Gandhi a vraiment dit (1969).

-          Iyer, R. N., The Moral and Political Thought of Mahatma Gandhi (1973).

-          Massignon, Louis, « L’Exemplaire singularité de la vie de Gandhi », in Parole donnée (1962).

-          Massignon, Louis, Opera minora, vol. III (1963).

-          Nanda, B. R., Mahatma Gandhi: A Biography (1968).

-          Radhakrishnan, S., R. R. Diwakar & K. Swaminathan (eds.), Mahatma Gandhi: 100 Years (1968).

-          Rothermund, Indira, The Philosophy of Restraint: Mahatma Gandhi’s Strategy and Indian Politics (1963).

ملحوظة: يمكن أيضاً للمهتم أن يحضر رائعة ريتشارد أتنبورو الخالدة غاندي التي أبرزت شخصية غاندي من خلال الفن السابع.

***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود