|
أول
نغم
محاسن
الجندي
أخذ شيء من
التردد والدهشة والخوف يخالط نفسها، مثلما
يحدث عندما نصحو وتبدو معالم الكائن الذي
عذَّبنا أثناء الكابوس تتراءى لنا. وقفت مشدوهة تنظر إليه، بينما
كان يمدُّ يده ليسلِّم. هل قرر القدر أخيراً أن يجمعهما؟
ومتى؟ بعد عشرين عاماً؟! تجمَّد كل
شيء فيها، عقلها، جسمها، ساقاها... إلا قلبها
الذي بدأ يطرق بشدة، حتى ظنت أنها سوف ترتمي
بين ذراعيه فاقدة وعيها. هو ذا النبض يرجع،
والإحساس يتدفق دماً حاراً إلى وجنتيها،
والبريق يلمع في عينيها دموعاً تأبى النزول. هذا هو حبيبها – وهو كل ما رغبت
في حياتها. ألم تُمضِ الأيام والسنين وهي
تحاول عبثاً طرده من مخيلتها؟ اللعنة، اللعنة! لماذا قررت
المصادفة أن تسوقه إليها، فتضعه أمامها بكل
كيانه، وبيده كتابها الأول؟! ترتجف. بل كل شيء من حولها ينتفض
ويعود إلى الحياة. تقف مذهولة، والعرق يتصبب
منها. ترمقه بشغف، محاوِلة أن تكون كخشبة،
جامدة وناشفة، وتتأمل عينيه الزرقاوين
العميقتين كبحر هادئ، والقوام الرشيق، وخطوط
الشيب الفضية التي تزيِّن فوديه... آه، أيها
الإله، ما زال جميلاً، ومهيباً ككاهن! -
أهلاً! اشتقت لكِ. ما أخباركِ؟ لماذا
تحدقين بي هكذا؟! سألها برقة وحنان بصوته الدافئ
المعهود. وثب قلبها مذعوراً في صدرها،
واختنقت أنفاسها. بدا لها أنها ستموت من الألم.
عاد الصوت ذاته: -
ابنة عمك أخبرتني أنكِ تكتبين، وأعطتني
كتابك. هل القصص قديمة أم حديثة؟ عاد الصوت ذاته، والوجه ذاته.
إنه أول من في الذاكرة... وآخر من فيها. مَنْ
خانت زوجها الأول معه في أحلامها. وزوجها
الثاني أيضاً. حتى أيقنت أنها ستخون أيضاً لو
استمرت في الزواج. استدارت بعينيها إلى وجهه
مجروحة غاضبة. حتى هذه اللحظة، حتى هذه اللحظة، مجروحة وغاضبة! منذ تلك اللحظة التي
وقع فيها في مصيدة العزِّ والجاه والخواء،
مفضِّلاً عليها صديقتها "ذات الخبرة في
الحياة"، توقف الزمن لديها، وحبست نفسها
العاشقة، وأجبرتها على المكابرة. في أعماقها
ظلت، طوال تلك السنين، تربي حبَّها له، تغذيه، تفرشه بأشيائها الأنثوية. لم تعرف طعم
السعادة، ولم يعد أيُّ رجل يعنيها بشيء،
بينما استقر هو وقبع في زاوية قلبها، يتعتَّق
على مرِّ الأيام والشهور. إنه أول تجربة حب نظيفة وتامة.
لم تتكرر. كان رمز الحب مجسَّداً. إنه
الاضطراب العميق الذي هزَّ قلبها دهشةً شبه
رعناء أصابتها بالدوار، تماثل تلك التي يشعر
بها الأطفال عند سماع نغمات الموسيقى لأول
مرة. وبما أنها كانت من أولئك الذين فُطِرَت
الروح فيهم على حياة الشعر والموسيقى، الذين
يستمعون طويلاً ويطلبون النغم مجدداً،
منسجمين مع اللحن، مستمتعين باللذة الممزوجة
بالتوق إلى اللانهائي، كيف تستطيع أن تمنع
نفسها من حب الكائن الذي كشف لها لأول مرة عن
نغمات الحياة؟! أليس القلب الأول الذي أوحى
إلينا بالحب بمثابة الوطن؟ تلك اليد هي التي أزاحت حجب
الغيوم، وكشفت عن الشواطئ التي تستحم فيها
الشمس؟ والعيون الوسنى
التي أمطرت النفس بالامتنان الغريب كالمدى
الرائق؟ والسحر الذي يتملَّك الإنسان، منذ
البداية، فيحن إلى الاستماع – أبداً – لذلك
النغم الأولي الذي أطربه منذ البداية. حين وقفت في ذلك الزمن – أي منذ
عشرين عاماً – أمامه وهو يودعها قائلاً: "سوف
أراكِ يوماً... إلى اللقاء"، كان دمُها
مليئاً به حتى الفيضان. أما يداها فكانتا
فارغتين بشكل أبله يائس، محرومتين من عناقه،
محرومتين من الحبيب الذي ملكها كلياً، ولم
تملكه أبداً، موضوعة هكذا بقسوة أمام حقيقة
الفقدان – فقدان الذات والآخر. أليس هو من
اكتشفتْ نفسها من خلاله؟ والآن، كما تُنفَخ الحياة في
جثة، عاودت الروحُ فعلَها في الجسد، وعاد
المسيح لإحياء الكون الذي كفَّ عن الوجود. كيف
أمكنها أن تفكر يوماً أنها فقدت القدرة على
الإحساس والحب؟! نظرت إليه من جديد متأمِّلة
وجهه بعمق، وفهمت أنه يريد رؤيتها والتحدث
إليها فقط، كصديق يطمئن عليها. فكرت أنه لم
يستطع الإنكار في قرارة نفسه أنه أحبها دوماً
ورغب بها. لكن حبَّه لم يعذِّبه، ولم يجعله
يتخلَّى عن حياة الترف والسفر إلى الخارج مع
زوجة لم يحبها، ليصير طبيباً ناجحاً. أما هي، الفتاة ذات الأصول
الفقيرة المعدمة، ماذا كانت ستقدم له؟ "الحب
العظيم"؟! الحب ليس غذاءً كافياً للطموح
والمجد في هذا الزمن الأرعن. هكذا استسلمت لذلك الجنون،
وترسَّب جنون حبِّه في أعماقها كحصى ترسب في
قاع نهر، وبقي كالنور الخافت البعيد في كهف
لاوعيها، يقطن هناك ككاهن خير، كلما تعبت من
الدنيا ومن فيها، ذهبت إلى هناك كي تصلي. وظل
كيانها لؤلؤة سوداء في محارة مغلقة لعينيه
فقط محتفظة ببريقها الأخاذ. كانت ما تزال تنظر في عينيه،
بينما التعابير تتلاحق على وجهه، حتى استقرت
على شفقة يائسة. عندئذٍ فهمت ضخامة خطئها
وخاطبت نفسها قائلة: -
اجري بسرعة، واذهبي من هنا بمشاعر عزة
النفس التي لديك. تلك اللحظة عاشت أكثر من عمر.
تذكرتْ أنه المسؤول الحقيقي عن دمار حياتها،
لأنه وحده الذي ضعضع كيانها، ووحده الذي
كبَّلها بأصفاد غير مرئية، وكأنها أرواح
الشياطين، فلم تستطع فكاكاً. وكمن يحارب
طواحين الهواء، لم تقدر على فعل شيء،
واستسلمت لعاطفتها. كم سالت دموعها مريرة،
يتمازج فيها عذاب التخلِّي والخذلان
والإهمال والحرمان... -
اجري بسرعة... اجري بسرعة، اهربي... وركضت هاربة، وترنَّحت بعض
الشيء، ودموعها تتألف كحبات الندى تحت أضواء
الشارع، دليلاً على الحب الذي لم يُكتَب له أن
يرى النور، لكنه سوف يظل يلهبها دائماً
بحريقه. وكلما ارتفعت درجة الانصهار خرجت
نفسها رشيقة، شفافة كفراشة الضوء. ألم تقل إحداهن إن "الأجمل لا
يُبلَغ إلا بألم كبير"؟! *** *** ***
|
|
|