|
نشوة
أميمة
الخش
عندما
ارتمى جسمي على المعقد في الحافلة
الكبيرة التي ستُقِلُّنا من المدينة
الساحلية كانت خلاياي ما تزال تعبق بنشوة
الفرح الذي غمر كياني خلال ساعات الأيام
الثلاثة الماضية، بينما مخيلتي تمتلئ بمشاهد
ملونة بألوان قوس قزح. تركتُ
حقيبتي الصغيرة تركن قرب قدميَّ المتهالكتين،
وأرخيتُ ذراعيَّ مرتداً برأسي
إلى المسند، سابحاً بنظري عبر النافذة
الصغيرة، عن يميني، وراء مساحات الأبنية
المتفرقة في الشارع الذي بدأ يفتح صدره لصوت
محرِّك الحافلة، وهو يصدر هديره المعتاد
إيذاناً بالانطلاق. أن
تقوم صداقة بينك وبين البحر شيء رائع! والأروع
منه ألا تحتاج إلى زمن طويل كي تحسَّ بعمق
تغلغل تلك المشاعر التي نَمَتْ وترعرعتْ في
زمن أقصر مما كنتَ تتوقع. أنا
جبليٌّ. نشأتُ وشببتُ تحت ظلال أشجار التين
والزيتون. عشت ساعات ولا أجمل أسبح وراء
مساحات اللون الأخضر ينقلني إلى عالم ملآن
بالسكينة وبالوداعة. رافقت الشمس الغاربة في
أمسيات كثيرة قبل أن تختفي وراء أكمة الجبل
الذي نَهَدَ بقامته عالياً حتى كاد يعانق
الغيوم. بلَّلتْ قطراتُ مطر الخريف والشتاء
جسمي الناحل وأنا أرقب، متأملاً، بذرة نبتة
قبعتْ في عمق رحم الأرض المخصبة في انتظار
ولادة جديدة. تحضرني
الذكرى، وأنا أتمرغ فوق العشب الأخضر. يخدِّر
جسمي، بنعومة فائقة، العبقُ الطازج المنبعث
من الرحم المفتوحة على طقوس فرح عميق بولادة
الإله المتعمِّد بالمياه المقدسة. تشتعل في
كياني نقطة ضوء تشدني إلى السباحة والغوص. إلى
البحر، موطني الأول. تشدني إلى الارتداد من
جديد إلى الكهف الأزلي حيث أمُور متكوِّراً
في ظلمة المياه الدافئة الممزوجة بأريج
الحياة. لحظة
العشق المخبوءة فاضت بمكنوناتها، وأنا ملقى
على الشاطئ، أتنفس العبق المقدس خارجاً من
أعماق الحياة، متشكلاً بألف ألف ثوب أبيض
تموج أردانُه مع دفقات تيارات الريح اللعوب. على
صفحة مخيلة رأسي المرتد إلى الوراء لا تزال
الصور واضحة المعالم، ولا يزال جسمي مخدَّراً
بلحظة الاتصال الحميمة. الحياة تنهض من عمق
السكون، وأمام ناظريَّ الغائمين تتراقص
عرائسُ البحر بأثوابهن الكونية الناصعة
البياض، عامرةً بصخب الحركة. يندفع جسمي
الممدد، فيتأجج القلب بأشواق لا نهاية
لاتساعها. يمتد
بصري إلى أبعد نقطة يمكن أن يدركها، ويرتدُّ
متابعاً حركات الراقصين الغجرية. تلتهب
الأجسام وهي تتقدم نحوي. تمتد أذرعُها
البيضاء تناشدني المشاركة. يموج جسمي مع جنون
حركاتها السريعة. تمتد أصابعي تلمس أطرافها
المندفعة. تقترب، تقترب حتى الالتصاق. وأمام
الخط الفاصل بين الحياة والسكينة تتراخى
الأيدي، وينفضُّ الرتل مفسحاً الطريق لرتل
آخر أكثر حماسة واتِّقاداً. أتقلب
فوق الرمل النَّدْيان. تنفذ ذراتُه إلى مسامي
العطشى للطراوة. أرسم دائرة فوق مساحته أضع
رأسي في مركزها. تتجه عيناي نصف المغمضتين إلى
فوق، بينما قدماي تغرقان في دوامة الزرقة
المُسْكِرة. يعبق
كياني بالنشوة. وفي لحظة لازمنية يشفُّ جسمي
كنسمة. أرى نفسي أحلِّق حتى أكاد ألامس القبة
الزرقاء. أنظر إليَّ من عَلُ. أراقب همود جسمي
الملقى على الرمال، وأتابع حركة الأرتال
العرائسية تعاود خرق الخط الفاصل بين الحياة
والسكينة. تهب
رائحة الحياة من طيَّات الأردان المندفعة،
وينْدَهُني وقْعُ أنغام العرس الكوني الجديد،
وصخبُ ألحان المزامير البدئية. في
ومضة خاطفة أقطع المسافة البعيدة، وأروح
أتخلَّلني. ينتفض
جسمي برقة. يمور بالحنين. يندفع ملبياً نداء
الجوقة السحرية. تشدُّني الأرتال البيض. تمسك
يدي. تحضنني بحنينها الدافق كلِّه، وتستسلم
لجسمي الذي يفيض باشتياقاته الأولية. تمتد
يدي تنزع الغلائل النورانية. تفتش عن الثدي،
عن السرة، عن الرحم المفتوح. وأتيه! أريد
الدخول! يدفعني الحنين إلى التكوُّر
والاندفاع في عمق الرحم المخصب جنيناً يسبح
في عمق السكينة متعمِّداً بالدفء والأمان. في
لحظة قدسية لا أعيها أهتدي. تعتريني الرعشة!
تهدهد غفوتي الواعية أنفاسُ جسم بشري تلفح
رقبتي المائلة باتجاه النافذة السحرية. أفتح
عينيَّ نصف المغمضتين. أصحو على مهل على صوت
يصل سمعي أشبه بتغريد بلبل: -
هل تعيش البلابل على الشطآن؟! أميل
برأسي المتراخي إلى الجهة الأخرى. يركض بصري،
وهو يفيق تواً من غفوته باحثاً عن صورة بلبل
يعشق الشطآن. يصطدم بوجه مفترٍّ عن ابتسامة
تُبرِزُها شفتان مكتنزتان. أتساءل: "هل
تتحول البلابل بسحر ساحر إلى هيئة بشرية؟!" ينتفض
في جسمي وتر. أعدِّل جلستي، وأحدق إلى الشفتين
تخرج منهما أنغام أشبه بموسيقى مزامير عرس
الشاطئ. -
لا شك أنك فنان. حدسي ينبئني
بذلك! افتح
عينيَّ على اتساعهما. أتابع التحديق إلى
الوجه المبتسم. فجأة أقهقه، دون أن أهتم بمن
حولي من ركاب الحافلة. أتوقف عن الضحك، وقد
وصلتْني علائمُ الدهشة على الوجه القريب
الوادع. أسأل،
وأنا في غمرة نشوة الغفوة والصحوة معاً: -
فنان! حدسك! أنفض
رأسي قليلاً. تهتز مقدمة غرَّتي الكثَّة. -
لاشك أن لديكِ حدساً مصيباً، لأنك اقتربت من الحقيقة بما يكفي. أبدِّل
القهقهة بابتسامة ودود. أتابع السؤال: -
ما الذي حرَّك حدسَكِ يا ترى؟ تصمت
لحظة، ثم تهز كتفيها بحركة لطيفة. -
لا أدري. ربما شكلك... لحيتك...
عيناك التائهتان وراء أمداءَ بعيدة. منذ
أقلعتْ الحافلة وأنا أرقبك. تراك تعيش أجواء
لحظات سعيدة ماضية؟ أكفُّ
عن التحديق إلى الوجه الهادئ المبتسم، ويعود
نظري يتابع حركة الطريق عبر الزجاج الأمامي
متجاهلاً سؤالها الأخير، بينما يظل طيف
ابتسامة يظلِّل شفتيَّ المنفرجتين. أقول دون
أن ألتفت إليها تماماً: -
أنا شاعر يا آنسة. أعيش حالة
فريدة تعشش في كياني كما تعشش نشوة خمرة معتقة
في جسد ظامئ... قبل
أن أنهي جملتي أعود لأتفرس في وجهها، مرتقباً
وقعَ كلماتي على قسماتها الهادئة. تتسع
البسمة على شفتيها، ويلتمع في عينيها بريق
أخاذ. -
صَدَقَ حدسي إذن. الشاعر
فنان. بل هو فنان مبدع! تأوَّهتْ
برقة. -
لطالما حلمتُ بمجالسة فنان
مبدع. أترى؟ حظِّي من السماء! في
لمحة أحسستُ بيدها تمتد لتقرِّب المقعدين،
ليصيرا متلاصقين تماماً. انطلق
لسانُها من غير ما قيد، وعبَرَت من خلال
شفتيها الكلماتُ، عفوية، متدفقة: -
من يستطيع أن يصغي؟ من
يستطيع أن يفهم المشاعر؟ من يستطيع أن يشارك
في الأحلام والآمال أكثر من شاعر؟ هل تعرف كيف
أعرِّف الشعر؟ إنه مداد الروح، يلوِّن به
الشاعر ورقَه الأبيض ليغدو مصطبغاً بألق
الحياة النابض. هو تدفق الكيان وفيضه على
الساكن، ليموج بالحركة والحرية والانطلاق. ضحكتُ
برنَّة صوت مسموعة: -
الله... الله... من هو الشاعر
بيننا إذاً؟ لاشك أنه أنتِ! كانت
الحافلة تغذُّ السير قاطعة ربع المسافة أو
أكثر بقليل. لكن الزمان بدأ في تلك اللحظات
يخرج من حساباتنا. راح
الدفء يتسرب إلى كياني مع التصاق كتفينا
وذراعينا. دفءٌ يشبه دفء الشمس الغاربة ترسله
على جسمي الملقى على شاطئ رملي، فتدغدغ
أنسجته بحرارتها الفاترة الحانية. ملتُ
بجسمي، عن غير وعي مني، إلى حقيبتي الصغيرة
المركونة قرب قدميَّ، وجررتُها إلى منتصف
المسافة بين قدمينا. التصقتْ بحقيبتها.
فتحتُها بسرعة وأخرجتُ منها ديوان شعري
الجديد. قلت بلهفة: -
إذن، أنت تحبين قراءة الشعر؟ ألقت
برأسها على المسند، ومدت يدها تتلقف يدي
وتداعب أصابعي المحمومة. -
نعم أحب الشعر. أحب الفن من
كل نوع. صمتت.
ثم راحت ترسل نظراتها عبر النافذة القريبة
مني. -
كانت لي فيما مضى أحلامي
الجميلة أيضاً! تنهدتْ.
علا الوجيب في قلبي. بدأتُ
أقرأ، وهي تصغي. وكلما قرأتُ مقطعاً يلتهب فيه
العشق، كانت تضغط على كفي فيزداد الدفءُ
حرارة في كياني كلِّه، وتزداد خفقاتُ قلبي
الذي تحول إلى عين ماء دافقة. صمتُّ
لحظة، وعدتُ إلى شرودي. "أحقيقيٌّ ما يحدث؟"
سألت نفسي. "أتعرَّف إلى فتاة منذ ساعة،
وتؤثر فيَّ هذا التأثير كلَّه؟ لا بدَّ أني
إنسان غير عادي. مجنون مثلاً!" عادت،
في لحظة وَجْدٍ حارقة، صورُ عرائس البحر،
بلباسهن الأبيض الفضفاض، تمرُّ أمام
مخيِّلتي، وعادت أصوات المزامير تقرع أذنيَّ
كأنني أسمعها الآن. أبتسم،
وأزداد التصاقاً بصديقتي. تستجيب لندائي،
فترخي رأسها على كتفي، وتروح أنفاسُها تلفح
رقبتي، ويدخل أنفي شذى يعبق برائحة النهد
والسرة. أميل بعنقي جهة رأسها المرخى، وتروح
شفتاي تعبثان بشعرها الليلي، ناثرة قبلاتها
الدافئة على خصلاته المسترسلة. أهمس وأنا
أقترب بشفتي من أذنها: -
طفلتي، يا طفلتي. أية مدرسة
علَّمتك كيف تكونين امرأة؟! تضحك
بغنج، وهي تقترب بخدِّها من وجهي. أقول، وقد
بدأ جسمي يخفُّ، متخلصاً من ثقله الأرضي. -
ما أجمل الأحلام تنقلنا إلى
عوالم تعبق برائحة البخور! تداعب
أصابعي برقة. تهمس: -
يا لك من حالم كبير! لا
تصلني الجملة كاملة. أتابع: -
الشاطئ رملي بلون أشعة
الشمس، وعرائس البحر يتقدَّمن نحوي بخطواتهن
الحُبلى بنبض الحياة. أمد كفي أريد أن ألمس
أردان ثيابهن البيضاء. يقتربن، يقتربن.
وأصوات جوقتهن تصمُّ أذنيَّ. وعندما يملأ
أنفي عبق الأنوثة، يتلاشين أمام بصري المفتوح
على اللانهاية، ويضيع العبير في خلاياي،
يُسكِرني حتى النشوة. أنطرح على الرمال،
أعانق السراب... تعدِّل
رفيقتي جلستها، مخلِّفة بقايا من خصلات شعرها
على كتفي. تحدق إلى وجهي برهة، ثم تقول بفرح
طفولي: -
عندي فكرة. تتابع
دون أن تنتظر سؤالي: -
بقي أكثر من نصف ساعة على
وصول الحافلة إلى استراحة المسافرين. ما رأيك
لو نتبادل الرسائل؟ أليست فكرة مدهشة؟ أقهقه،
وأنا أهز رأسي كمن يستمع إلى طرفة. -
نتبادل الرسائل؟! -
بالضبط! أنت تكتب لي رسالة
حب، وأنا أردُّ عليها من فوري. ها... ما رأيك؟ تميل
برقبتها بغنج مثير. أحاول
أن ألملم شتات فكري، فينفلت مني على غير هدى.
أقول بفرحة وقلق مراهق مُقْبِل على مغامرة
بريئة أملتْها اللحظة: -
فكرة مدهشة حقاً! أمد
يدي إلى حقيبتي. أخرِج ورقتين وقلمين. أطوي كل
ورقة ثلاث طيات، ثم أفصل الطيات. تتشكل بين
يديِّ كل منا ثلاث قصاصات بيضاء. -
أنا أبدأ. أقول
بلهجة الفرح ذاتها. أميل
بجسمي جانباً، وأختلس من النافذة نظرة عجلى
إلى المدى البعيد، بينما الأشجار والخضرة تفرُّ على جانبَي الطريق. أسابقها وأنا فوق
مقعدي في رحلة بحث عن مجهول يسترُ وجهَه قناعٌ
شفيف، فلا تكاد تبين ملامحُه إلا كما يبين
القمرُ من وراء غمامة رمادية. "حبيبتي!
هل تعرفين ما هو الحب؟ إنه الحلم الكبير،
أعيشه معك منذ ثلاثة أيام دون أن أدري.
أتعلمين؟ أنا لم أكن وحدي على الشاطئ الذهبي
أرقب عرس البحر، وأسمع مزامير جوقته الكونية،
يدخل لحنُها عمقَ خلاياي، يقيم فيها طقوسه،
ثم يتركها وقد تجددت فيها أنسجة الحياة. كنت
أمد يدي فتتلقاها كفُّك المفتوحة، تحضنها،
وتثير في عروقها النبض، فيرقص جسمي على وقع
اللحن الخالد. أنطلق إلى اليمِّ، أقذف فيه
جسمي المنتعش بالأريج العابق من أردان ثوبك
الأبيض. أجهد نفسي في سباق حلوٍ معك، وأنت
تندفعين بصخبك المثير، بعبقك المُسْكِر.
وعندما نصل الشاطئ تغيبين! لماذا تحبين أن
تلعبي معي هذه اللعبة يا حبيبتي؟!" "حبيبي
الحالم! لماذا تظن أني تركتك، وغبتُ بعيداً
بعد أن منَّيتك باللقاء؟ أنا يا حبيبي لم أغِبْ. كنت أنتظرك على الشاطئ بعد أن أجهدَك
السباق قليلاً. لكنك لم ترني. كنتُ أرى عينيك
مفتوحتين على اتساعهما، لكن نظرتك كانت غائبة
وراء المجهول. حاولت أن أرفع يدي وألوِّح لك
لكي تراني، لكنكَ تهالكت على الرمال في شبه
غيبوبة. اقتربت منك. حاولت لمس ذراعك فلم تحس
بي. عيناك نصف المغمضتين تنظران إلى نقطة
بعيدة خلف حدود خط الأفق اللامتناهي." "حبيبتي!
هل تعرفين؟ كنت أصغي إلى صوتك يأتيني من جزيرة
بعيدة خلف الحدود المرئية. جزيرة تدفئ رمالَ
شواطئها خيوطُ الشمس الغاربة، ويفجر الحياةَ
فيها رنينُ صوتك الآتي كلحن ناي عذب، يخترق
أعماقي الساكنة، فأحسُّها تخرج من جسمي رويداً،
رويداً، وأنا أتابعها تلتحم بقرص
الشمس الأرجواني وتذوب في أعماقه. فما عاد في
جسمي إحساس بغير السكينة العميقة، وما عدت
أسمع إلا صوتك يتبعني حتى نهاية المطاف." "ما
أرقَّ حديثك يا حبيبي! ولكن لماذا تتحدث عن
جزر مهجورة، وشواطئ لا يسكنها إلا الحمام،
وبحر نتسابق مع أمواجه الهائجة حتى الشعور
بالإنهاك والتلاشي؟ أليس الحديث مع الشفاه
الناطقة ألصق بالحياة؟ أليست الشواطئ
العامرة بأجسام بشرية أدعى إلى التفاؤل
والأمل؟ لم كل هذا الأسى يا حبيبي؟ الحلم فرح.
فرح عظيم. لكن الحقيقة أصدق من كل ما تتخيَّله
يا حبيبي." "من
قال لكِ إن شواطئي مهجورة، وجزري لا يسكنها
إلا الحمام؟ من قال لكِ إن الأسى يبدد أفراحي
وبهجتي؟ إن شواطئي التي أرتادها تضج بأصوات
عرائس البحر، وتمتلئ بتموجات أثوابهن البيض،
يتمايلن فيها على إيقاع ألحان كونية ولا أحلى!
وجزري مأهولة بأحلام كبيرة كبر الكون نفسه،
وعظيمة عظمة الطبيعة ذاتها. من قال لكِ يا
حبيبتي إن الحقيقة هي ما نراه بحواسنا؟ إنها
أبعد مما نرى ومما نحسُّ بما لا يقاس. إن لم
تكن هي حلمنا العظيم الذي يحوِّل السكونَ
حركةً، واليباسَ خضرةً، والجسدَ أعماقاً
تختلج فيها الروح تائقة إلى الأعلى والأسمى،
فما هي إذن يا حبيبتي؟!" "لا
أدري يا حبيبي! لكن كلامك بقدر ما يجذبني إلى
عوالم سحرية، غامضة، يحمل إلى نفسي الخوف من
المتاهات والغابات، والأعماق السحيقة
المجهولة. أنا أحب دخول المتاهة، لكني أحب أن
أمسك في يدي خيط أرياذني*
وأنا أدخلها أول مرة. وأحب الغابات، ولكني أحب
أيضاً أن أتبع طائر الهدهد يدلني على الطريق
بين أشجارها العملاقة، ويجنِّبني لقاء
وحوشها المفترسة. وأحب أعماق البحار السحيقة،
لكني أحب أيضاً أن أتعلم قبل ولوجها فن الغوص
يا حبيبي. ومع ذلك، فأنا أحس بأني مشدودة إليك.
ولا أدري ما السر وراء ذلك كلِّه!" عادت،
فألقت برأسها على كتفي، فاستراحت خصلاتُ
شعرها الليلي عليه من جديد، وعبقتْ من خلاله
رائحة البحر والشواطئ والجزر المهجورة،
بينما لا يزال نظري يتابع كلماتها على آخر
قصاصة ورق بين يدي. يقطع
صوتُ السائق علينا روعةَ الموقف وبهجةَ الوقت
الذي مر دون أن نحس، معلناً وصول الحافلة إلى
استراحة منتصف الطريق. وقبل أن ينهي جملته
الأخيرة، كان الركاب ينطلقون من الحافلة
باتجاه المقهى القريب، فرادى وجماعات،
يختارون مقاعد حول طاولات مستديرة بعد أن
يلبوا حاجتهم من طلب فنجان قهوة أو كأس عصير. لم
أكن وصديقتي ضمن عالمهم. لم تكن بنا حاجة إلى
أي شيء آخر سوى أن نظل في مكانينا، ملتصقين
على شاطئ جزيرتنا المهجورة، تسكنها عرائس بحر
بأثوابهن البيض، يصلنا من عمق سكونها هديل
حمامتين يعمر قلبينا بالفرح. أعبُّ
من أريج شعرها الملقى على كتفي، وأتنهد،
بينما يسرح نظري وراء المدى الواسع. تغيم
الرؤيا لحظة أمام ناظري، ويبدأ جسمي، عن غير
وعي مني، ينكمش، شيئاً فشيئاً، بينما تأخذ
ضرباتُ قلبي تنتظم من جديد. أحس
بالسكينة وبحاجة ماسة إلى الوحدة. أحاول أن
أسحب يدي من يدها، فتضغط عليها بقوة وتتنهد. -
حبيبي... ما أجمل هذه اللحظات! يصلني
صوتُها قادماً من كهف عميق، حاملاً معه مشاعر
قلقٍ غامض يبدأ يتسرب إلى كياني المنكمش على
المقعد. يرمقنا
سائق الحافلة، وهو يعود ليتخذ مكانه خلف
المقود. يبتسم كأنما يبارك غزلنا، ويشجع
عواطفنا المشبوبة، بينما يبدأ الركاب حركتهم
ليحتلوا مقاعدهم من جديد. يحدجنا بعضهم أثناء
مروره بنظرة قاسية عجلى، وتتجاهلنا نظرات
آخرين يمرون وهم يهزون رؤوسهم بحركة فيها
الكثير من السخرية أو الاستنكار. -
الحلم جميل يا حبيبي، لكن
الطيران من غير أجنحة لا تُحمَد عقباه. تضيع
الجملة الأخيرة مع ضجيج صوت المحرك المتعالي
متابعاً رحلته. أسألها
بصوت خفيض، وبكلمات متقطعة تجيء أشبه بما
يخرج من فم شارب خمرة معتقة: -
ألم تقولي منذ قليل إن لك
أحلامك الحلوة أيضاً؟ تتنهد
بعمق! -
لكنها لم تتحقق! أدير
رأسي صوب النافذة. الشمس تطوي أشرعتها
الوردية غارقة وراء خط الأفق، تاركة وراءها
ظلالاً أرجوانية تفعل في النفس فعل السحر.
أحسُّ أني في محراب. تتعطل الكلمات. ألوذ
بالصمت. تقطع
صديقتي لحظات صمتي تقول: -
تركت الدراسة بعد الثانوية
العامة. كنت أحلم بدراسة الأدب، وكان أهلي
يحلمون بوظيفتي ونقودي القليلة تعينهم على
إطعام أربعة أفواه فاغرة. تحرِّك
جملتُها الساكنَ في أعماقي، بعد أن تقذفني
بعيداً عن محراب الصلاة. -
وهل كففتِ من وقتها عن
الحلم؟ تندهش. -
كففتُ؟ وهل خُيِّرتُ في
هذا؟! صار يُفرِحُني أن أعيش أحلام غيري،
وأرقب طيرانهم في الأجواء الواسعة. -
إلى أن يسقطوا مثلك
وتُدَقَّ أعناقهم. لا بدَّ أن المنظر بات يروق
لك تماماً! -
ماذا تقول؟! تركتْ
أصابعَها تنزلق من بين أصابعي، وعدَّلتْ
جلستَها قليلاً. -
عمَّ تتحدث؟ -
أسألك إلى أين تذهبين الآن؟ -
إلى حيث أنت ذاهب. لقد
تعوَّدت مع كل إجازة أن أسافر إلى العاصمة.
أنزل ضيفة عند صديقة لي بضعة أيام. -
وتتركين البحر، ومدينة
البحر؟ -
لقد اعتدت رؤية البحر... حتى
مللتُه! -
حقاً؟ لكن البحر يهبنا
الدهشة، فكيف نحس بالملل منه؟ أبعدت
ساعدَها عن ساعديَّ، والتفتت إليَّ متفرسة في
وجهي، كأنما هي تراه أول مرة. -
كل شيء تتعوَّده يُفقِدك
الشعور بالدهشة. حتى البحر الذي تتصور أنك
تعشقه أكثر من أي شيء آخر. -
لا! ليس كل شيء، كما تتصورين
يا صديقتي. الحلم يمنحني الدهشة، كما يمنحني
إياها البحر تماماً، كما يمنحني إياها الحب
أيضاً. وعندما لا يعود الحلم، والبحر، والحب،
قادرين على منحي هذا الشعور لن أكون أنا، ولن
تكون الدنيا كما هي في نظري. لن تكون هناك
عرائس بحر يرقصن بثيابهن البيض على نغم
الحياة النابض، ولن تكون هناك حمامات على
شطآن جزيرة مهجورة يهدلن للعاشقين، فتختلط
أصواتهن بمزامير الجوقة الكونية، ولن يكون
هناك شعر كنت تستمعين إليه منذ قليل، وأنت
سكرى بنشيد الحياة. يرتفع
صوتها بنبرة فيها بعض الحدة: -
أنا لم أقل إن الحلم ليس
جميلاً... لكن الواقع حياة أيضاً، وحياة نابضة! -
وماذا يَهَبُكِ الواقع يا
صديقتي؟ -
يَهَبُني ما لم تستطع
أحلامي أن تَهَبَني إياه: بيتاً، وزوجاً،
وأطفالاً. -
والحب، والبحر، والحلم؟! أعود
إلى الصمت. أسألها بعد حين: -
ألهذا تزورين العاصمة في كل
إجازة، وتنزلين في ضيافة صديقتك التي تعرِّفك
إلى الكثيرين؟ صديقتك التي تنغرس أقدامها في
الأرض كأوتاد مكبَّلة بأصفاد من حديد؟! أخذت
أقدامُنا تُباعِد الحقيبتين الواحدة عن
الأخرى، بعد أن تباعَد مقعدانا دون أن نحس
بذلك. أعود
لأنظر عبر زجاج نافذة الحافلة التي شارفت على
استنفاد الزمن الذي لاح لي دهراً. بحركة
غير إرادية تحسستْ قدمي موضع حقيبتي الصغيرة،
فوجدتْها مركونة إلى جانبها كما كانت حين
تحركت الحافلة منذ أربع ساعات. قالت
بصوت بدا مرتجفاً: -
كان يمكن أن تنشأ بيننا
علاقة حب رائعة! سألتُ
بلهفة: -
وبعدئذٍ؟ -
تتعمق علاقتنا مع كل لقاء
جديد. -
وبعدئذٍ؟ -
يكبر حبُّنا، ويتسع حتى
يشمل الكون. -
وبعدئذٍ؟ -
نتزوج مثل كل المحبين... جسمي
ملقى على الشاطئ، وقد تخلص من ثقله، وبدأ
يرتفع رويداً رويداً حتى بلغ الحد الفاصل بين
السماء والبحر. عرائس البحر بثيابهن البيض
يمددن أيديهن مشرعة، وسمعي يلتقط عزف مزامير
جوقتهن الرائعة. أمد يدي، وأنا معلق، لألمس
أردان الثياب البيض، فأسقط في حضن الجسم الغض. أبحث
عن النهد. عن السرة. تنبعث رائحة الرحم
المفتوح، فتملأ أنفي. أتكوَّر مثل جنين
محاولاً الولوج مرة أخرى إلى عمق السكون
القدسي. تنفتح مسامي على قطرات الماء تنفذ إلى
كل خلية من جسمي الصغير. يمُور في الرحم
الدافئ متطلعاً من خلال الظلمة إلى الماضي
والحاضر والمستقبل. أحس وأنا جنين متكوِّر
بعظمتي ونبلي! تتوقف
الحافلة في المحطة الأخيرة. أحضن حقيبتي،
أضمها بقوة إلى صدري. تحضن حقيبتها، تضمها
بقوة إلى صدرها. نغادر دون أن نفوه بكلمة! تستقبلنا
عتمةُ الطريق. ألتفتُ إلى الفتاة التي تأخذ
طريقها المعاكس للشارع الذي أسير فيه. أحس
أني أرى هذا الوجه أول مرة في حياتي! *** *** ***
* أرياذني: اسم الفتاة
الكريتية التي أعطت البطل ثيسيوس خيطاً
أمسك بطرفه وهو يدخل المتاهة للاشتباك مع
المِنوتور (وحش رأسه رأس ثور وجسمه جسم
إنسان). وقد ساعده الخيط على الخروج من
المتاهة بعد قتل الوحش.
|
|
|