محاولة في التجربة الفنية

 

سمير التقي 

البحث عن الله، عن المطلق، عن الجمال، ليس انفصالاً ولا تجريداً عن الوجود؛ إذ ليس الله، ليس الجمال، منفصلاً ولا تجريداً عن الوجود. إنه موجود في الحاضر حضور اتِّصال، حضور وحدة واتِّحاد. فلا يكون الواحد إلا لأنه الكثرة. إنه هو الوجود ذاته في حركيَّته ولانهائيَّته. فالسماء والأرض واحد. والسفر إليه لا يقتضي إلا السفر عميقاً إلى قعر الذات البشرية. السفر إليه لا يقتضي أن نخرج من أنفسنا. فاللانهاية ليست لا خارج الوجود، ولا خارج أنفسنا. ثمة أكوان أخرى تمور فينا، ومن حولنا. والعودة إليها، العودة إلى أصلٍ في الوجود – إلى الأصلِ في الوجود – لا تتم إلا من خلال الوجود ذاته، وعبره، نحو القيمة والمغزى المطْلقَيْن.

خلف كل الأسئلة يبقى سؤال المغزى والقيمة، سؤال القانون الكامن في روح الارتقاء والكمال. وتقف خلف تلك المفاهيم الكلمة: الكلمة كمحاولة للتماهي مع هذا الأفق–الهدف.

هذا السؤال الذي عجزت أمامه الشريعة والدين، وعجز العلم أيضاً، يحاول الفن أن يقاربه. وخلف هذا السؤال، وأمامه، ينشأ الدافع العميق وراء كل بحث جمالي، حيث يصبح الفن فعلاً معرفياً من الطراز الأول؛ فعل تحدٍّ للمعرفة من وراء ومن فوق الفعل المعرفي العقلي البسيط؛ فعلاً جمالياً ببحثه عن الجمال في التماهي مع الغيب، أياً كانت هويَّته؛ فعلاً يهدف إلى العودة إلى الكلِّ–الأصل في أعماق الإنسان، وفي الكون وفي الزمان. إنه عود على بدء وراهن في آن معاً.

يفترض الفعل الفني، إذن، إحياء تلك الطبقات العميقة من النفس البشرية، تلك الطبقات التي خلَّفناها وراءنا لحظة الانتقال نحو مدَنِيَّتِنا، لتكون التجربة الفنية بحثاً عن تلك المفاتيح التي أضاعها الإنسان والتي ما تزال تختبئ في أعماق نفسه منذ أن غادر همجيَّته؛ تلك المفاتيح التي ما برحت تبقيه على اتصال واندماج مع الطبيعة ومع عوالمه الداخلية، بكلِّ همجيَّتها وإنسانيَّتها.

تلك العفوية والفطرية التي فقدناها، كما تقول الأسطورة، يوم تناول أبونا آدم تفاحة شجرة المعرفة، وبدأ رحلة المعرفة الكونية، لتغدو حياته رحلة انفصال واتصال أبدية عن أمِّه الطبيعة، مع همجيَّته وفطرته، حيث المرأة والآخر ظلٌّ لأورشليم وأطلنطس؛ حيث الحبيبة هي: الوردة، الخمرة، الماء، ... الله. ذلك أن خروجنا من الهمجية، خروجنا من الطبيعة، لم يُخرِجْنا من الـ"جنة" فحسب، بل أخرَجَنا أيضاً بعيداً عن ذاتنا، وبعيداً عن العالم، ليصير موضوعاً لذاتنا.

هذا الانفصال، هذا الانشطار بين الذات والموضوع، يتضمن عملياً خيانة للسرِّ، للحقيقة – عدا عن كونه حؤولاً دون الذات والتواصل مع الإنسان والأنثى، دون الذات والعودة إلى كُنْه المجهول؛ عدا عن كونه خيانة للحب.

الحقيقة في الفن لا تأتي من كتاب أو شرع أو قانون أو تعاليم، بل تجيء من الداخل، من التجربة الحية، ومن الحب والتواصل الحيِّ مع الأشياء والوجود والكون. فإذا بالإنسان يجسِّد في البحث الفني ويتجسَّد، ظامئاً إلى الوحدة، لا إلى التجريد، إلى المشاركة، لا إلى الهيمنة. فلو أن الله والأصل كانا موجودين خارج الوجود، دون اتصال مع الوجود، فما مغزى وجود ذلك الفنان العظيم: الإنسان؟!

في الفن تصبح الكلمة واللحن، يصبح الشعر والنثر، يصبح الشكل والجسد الراقص تجربة معرفية، وَحْياً وإعادة بناء بين الكلمة والماوراء... بهذا تخلق التجربةُ الفنية مخلوقاتِها وتنمو، تذهب وتجيء، تخمد وتلتهب، تتخاطر وتتنقل وتتباعد، لينعقد الزمن والتاريخ في اللحظة الفنية، لتغدو لغة الشعر محاولة لقول ما لا يقال، محاولة للمجاز؛ لتغدو توقاً لفك رمز لغز الوجود، وتسامياً بكثافة الوجود. يقول أراغون: "إن السريالية لا تقدم نفسها بوصفها عقيدة، وهي لا تسمح لنفسها بالحكم مسبقاً على نموها اللاحق."

ومع أن الهراطقة والإلحاديين والمهمَّشين والأقليات لا يمثِّلون الجسم الاجتماعي، ولا يدَّعون هذا التمثيل أصلاً، إلا أنهم يجسِّدون، بل يختزنون، الطاقة الأكثر قدرة على تحريك هذا الجسم وعلى تغييره. إنهم تلك المحاولة للتوفيق بين النقائض: بين البحث عن المطلق، من ناحية، وبين إرادة العمل في الواقع، من ناحية أخرى. محاولة للتوحيد بين النظرية والممارسة، بين الشاعرية والعملية، بين الكلمة والعمل، بين الدهشة والماركسية. وتحاول التجربة الفنية أبداً أن توفر لنفسها غنى دهشة جديدة. إنها عودة إلى الرومانسية. الفن، إذن، يستلهم من روح فرويد ويونغ خصوصاً، من بوذا والمسيح، ومن ماركس وعلم الكلام بعامة.

ترفض التجربة الفنية ذلك الفصل الديني أو المادي الرائج بين الروح والجسد؛ بل ترفض مفهوم الخطيئة الموروثة... الخطيئة الجسدية. إنها بحث عن السر، عن الطاقة في حالتها البدائية المتوحشة، عن الكلام الحي، وعن الأسطورة.

الأسطورة هنا ما هي إلا التجربة التي يطفو فيها ركام الهمجية – الهمجية كعامل العوامل الداخلية – أشكالاً ملموسة. فـ"الماء هو التحول الأول للغاز" (هيراقليطس).

عبر التجربة الفنية يتحول الإنسان إلى هربٍ بلا حدود خارج ذاته العارفة، وتتحول حياته أنهاراً بطيئة تصعد في اتجاه السماء. إنها تلك الدعوة إلى شهوة الدهشة، إلى الجانب المعتم من القمر، من الأشياء.

التجربة الفنية ليست، إذن، إلا هاجساً للتماهي مع المجهول، توقاً أبدياً للبحث عن السرِّ في الجمال، السرِّ في الحب. البحث عن الحب بالحب، والبحث عن الجمال بالمزيد من الجمال. إنه حالة حبٍّ وتماهٍ، لا سيطرة؛ إنه حالة تواصل، لا انقطاع. فأنت، عندما تحدِّد الله، تخونه، تنفيه.

فالإنسان واقع حرية، حيث الحرية تجربة تفرُّد، واحتمال ارتقاء وتعدُّد. وحين ينير الإنسانُ الكونَ يغدو لامحدوداً. والحرية بذلك تكون جوهراً للفن وجوهر إنسانية الإنسان؛ إذ يتجلَّى فيها بعضٌ من اللامتناهي، بعضٌ من المجهول. الحرية في العمل الفني تغدو لحظة اندماج بالكلِّ بقدر ما هي لحظة تفرُّد معرفية لا موصوفة، إشراقية؛ حالة انفعالية، لاشعورية، لامَشاعِريَّة، فوق عاطفية؛ إنها يأس على تخوم الأمل، وأمل على تخوم اليأس.

في اللحظة الفنية تتنفس الكلمات، ترقص، تتلوَّى، تتألم، تنجرح وتسيل دماؤها، تتمزق، تتوثب، تتعثر. "ذات مساء أجلستُ الجمال على ركبتي، وجدته مراً، وسئمته." في اللحظة الفنية لا يكون الحلم معزولاً عن الواقع؛ تتحول فيه إلى جزء من ذات الجسم، وتصير وجوهاً له؛ وجوهاً لله، للمطلق، للكون... "الواحد كثير، الكثير واحد."

وإذا كان شأن الجماد التحول الدائم، فشأن الإنسان أن يَخْلِقَ ويُخْلَقَ كلَّ لحظة. شأن الشيء وجوده المؤقت؛ أما شأن الإنسان الفرد فعرضيَّته وأبديَّته في آنٍ معاً. فلا يبقى الزمان بُعداً للوجود، بل يتماهى معه.

"أراك صوراً، أراك زماناً يحل زماناً، آناً من الله، آناً للمطلق، للعتمة."

تحاول التجربة الفنية بذلك استعادة إنسانية الإنسان بما تحمله من نسق من المعرفة والعرفان، وتكون غايتها الاكتشاف المنهجي لأعماق الذات حيث يتجلَّى الحق للإنسان في صورة، فينصبغ الإنسان بهذه الصورة. وبذلك يكون الخيال الفني والحلم وهماً تتجلَّى فيه صورٌ للمطلق، تفاعلاتٌ له، مظاهرُ له – حتى يصير الإنسان الكامل "برزخاً بين الحق وبين العالم". الخيال إسراءٌ وعروج: "تبدأ الحرية حيث يبدأ المدهش." (أراغون)

والمعرفة العلمية للطبيعة تفقد قيمتها ما لم تؤدِّ إلى التأسيس للالتحام بالطبيعة بوساطة الطرق الشعرية والشاعرية، بوساطة الطرق الأسطورية. وكل تقدم علمي يتم في إطار بنية اجتماعية ناقصة يعمل ضد الإنسان ويزيد من غربته.

الحكم على الأشياء هو مصدر الخطأ والجرائم على مدى العصور؛ أما الخيال فيرى! – لكنه لا يصدر أحكاماً. الخيال يهدف إلى خلق التعجب واللذة. إنه لا يبحث عن الإقناع، بل يهدف إلى إشعال الحساسية بالحياة وبالكون، وأولاً وقبل كل شيء، إشعال الأعماق الغامضة للإنسان.

في الحب

تبدو هنا "المحبة لذة والحقيقة دهش" (الدقاق)، حيث المحبة فعل كشف واكتشاف. لا تصلح المحبة بين اثنين حتى يقول الواحد للآخر: "يا أنا!" الموجود لا يُحَبُّ لذاته، بل لما نحب منه أن يكون، لدوام الاتصال به؛ بل لدوام التواصل، معه وبه، مع الذات. وفي الحقيقة لا يحب الإنسان آخر غيره لأنه لا يحب في غيره إلا نفسه!

في عشق الرجل والمرأة يتقابل كلٌّ منهما بكلِّيته. لذلك تسري اللذة فيهما، فيتقابلان على صورة بعضهما بعضاً. لا يتقابل الإنسان مع أيِّ شيء آخر بكلِّية ويتطابق معه إلا في عشقه للجنس الآخر. وإذ ينشغل المحب عن المحبوب بالحب ذاته، بحبِّ الحب، يصبح الحب وسيلة للعبور فوق الزمان، فوق الآن، نحو الأبدية، ويغدو كشفاً عن الذات في الآخر المُغوي. ونصل إلى الجوهر عبر العلاقة بالمثل، وبالآخر.

الحب (المحبة) هو القيمة الوحيدة للتجربة الفنية؛ بل إنه القيمة الوحيدة للتجربة الإنسانية، لأنه يسمح للإنسان بلقاء ذاته، بلقاء أورشليم، بلقاء الفردوس المفقود، حيث يعاد خلق الخنثى الأسطورية. وحين يوصلنا الحب إلى الجوهر، إلى قعر الطبيعة البشرية، يغدو القيمة الوحيدة التي تسمح للإنسان بلقاء ذاته.

الحب، الجنس الآخر، يسمح لنا – نحن المجزَّئين – أن نلتقي بذواتنا، أن نتوحَّد بذواتنا. إنه صعود نحو المقدس، نحو الجنس الآخر. وعبره نصعد من تفاهة اليومي إلى الرؤيا الكونية. إنه اندهاش وحرية انطلاق خارج التَمَوْضُع. إنه مستقبل الإنسان الفرد، مستقبل الإنسان الجنس. الحب أوسع من أن يُحصَر بالرغبة واللذة الجنسية؛ إنه المحرِّر الأول للإنسان؛ حيث الرجل هو، حيث المرأة هي، سفينة نوح للعبور إلى تجربة التواصل، إلى الخارق، وسط طوفان العالم.

"كل مكان لا يؤنَّث لا يُعوَّل عليه." (ابن عربي)

في اللغة

"كلما اتَّسعت الرؤية ضاقت العبارة." (النفري)

في اللذة بالجمال، في الاندهاش بالجمال، نغوص في المزيد من طلب الاندهاش. فبقدر ما نعلم نجهل! في الجمال نكسر أغلال الشائع والعرف، ونفلت من اللاهوت إلى الله؛ إلى جمالية الجمال، إلى جمالية الحب في مواءمته بين المتناقضات عبر تجربة الخيال، عبر التجربة الفنية. إنه إيمان بالإنسان وبقدرته على التواصل بالخالق؛ إيمان يحرِّره من تجربة التواصل التي خاضها الآخرون، بمن فيهم الأنبياء!

التجربة الفنية تحرِّر الغيب من قيود الغيبية النبوية؛ وهي بذلك ذات طبيعةٍ عميقةِ الرؤيا للإنسان، وثقة بقدرته على التواصل بالمطلق، ومع المطلق، حيث برزخ بين الظلام والنور. يحيا الفنان متلهفاً للعبور إلى الأبدية التي، بدورها، تكشف محدوديَّته؛ متلهفاً للعبور إلى التوحُّد المطلق الكامل، خَلاصاً من محدوديَّته.

قوام رمزية اللغة، قوام مَشاعِريَّة الأداة الفنية، يكمن في كسر ظاهر اللفظ، في تكثيفه. وهدف الشعر الصوفي هو خلق نشوة تحاكي نشوة التجربة. إنها لغة سكرى، غير تقليدية، منتشية ومجازية؛ حيث اللغة كلمة، أو حركة، أو شكل، أو لحن، أو...

اللغة لا تقيم إلا علاقة مجازية بين الذات والغيب، بين الجزء والمطلق، بين الصورة والوجود. فيها "نمارس الموت في الحياة"، الموت عن الظاهر في البواطن. فلا بدَّ من هدم لغة الظاهر، لا بدَّ من تجاوزها؛ يجب أن نُسْكِرَها! هدف اللغة الصوفية اكتشاف لغة كونية تصل إلى مطابقة اللامتناهي (الحقيقة، المعنى، اللب) مع المنتهي (الصورة).

وكما ينتشي المبدع تنتشي لغتُه وتسكر، لغةً للمجاز، حيث يتاح للامنتهي أن يتناهى للحظاتٍ من الزمان. عندئذٍ يصبح الشطح، الجنون، الحلم، الرؤيا، وسائلَ أدواتِ لغاتٍ أخرى، مَركَباتٍ أخرى نحو اللامنتهي.

هذه الحركة الدائمة من اكتشاف ما لا ينتهي تتضمَّن استهدافاً مستمراً للأشكال. ذلك أن الشكل والصورة ابتكارٌ محضٌ، لا يضيع ولا يؤخذ. إذ ليست اللغة غلافاً أو إناءً؛ إنها فضاء وحركة لأفكارنا ونظامها وبنية العلاقات بين الكلمات.

يصبح الخيال هنا جسراً بين المحسوس واللامحسوس. يشغف الجسم ويشفُّ ليصبح عنصراً لتوليد بنية خيالية للمكان، بنية خيالية للحيِّز وللوجود. بذلك تصبح الأنثى–الجسد، بُعداً صوفياً، شعرياً، غنائياً، أسطورياً، ويصبح الجسد تراتيل للوجود اللامتناهي. الشعر، بهذا المعنى، يعيد تكوين العالم الخارجي في صورة خالقه. وبهذا الانعكاس المضادِّ من الداخل إلى الخارج ينكشف الكون، ويكون المبدعُ ذاتَه وغيرَه في آنٍ معاً، وتنمحي التناقضات، ويصبح المحسوس والعالم الأرضي حضوراً للواحد... ويتجلَّى الحب.

هنا يصبح الحب توحُّداً في العرفان (المعرفة)، حيث يتأمل، يتمتع. ويقلب الواحد ذاته، مولِّداً نوعاً من الشعور أو الوعي أو الإدراك الكوني.

الهوية/الذات الإنسانية، ببعدها المعرفي، ليست سوى كينونة مغلقة. وليس الآخر موجوداً إلا بمقدار ما يصبح لذاتها، لصالح هويَّتها. لكن الهوية، بمعناها العرفاني، تفتُّحٌ مستمر. فبقدر ما تسافر الذات في داخلها تسافر في كينونة الآخر، في لبِّه العميق، في عمق لبِّه.

يقول رامبو: "أنا هي!" وبذلك لا تعود الذات الفردية هي التي تتكلَّم، بل الذات الكبرى، وتصبح العلاقة أكثر جمالاً مع الآخر؛ ذلك أنه يكشف الذات لذاتها؛ يبوح بها للآخر؛ فيصبح تفرُّد الذات أداةً للتقابل والاندماج معه، وعمليةَ تجاوزٍ مستمرة للذات... وللآخر.

تعبير الذات عن الحقيقة لا يستنفد هذه الحقيقة، بل يكتفي بالإشارة إليها إيماءً ورمزاً. فالحقيقة تبقى في عالم ما لا يمكن أن يقال. يقول جلجامش: "حين رأى كل شيء، رأى أن الحقيقة ليست في ما رآه وأدركه، بل في عالم يقدر أن يراه أو يدركه."

وحيث إن الصوفية انسلاخٌ عن النفس وفناءٌ، وفي حين أن السريالية وعيٌ باحثٌ، فإن التجربة الفنية، في أوج تجلِّياتها المعاصرة، ليست سوى اندماج للحالتين، تعود فتولِّد الذات المبدعة للإنسان الفني، حيث الظاهر/الباطن، الثبات/التقليد، التحول/الابداع، الباطن، الغيب، ما وراء الواقع، اللاوعي، المجهول، الكشف، الإشراق، الرؤيا، الخيال، الشطح، اللاوعي، إلخ، حالات من الصعود والهبوط ما بين الكثرة والواحد. فترينا القصيدة واللوحة واللحن مالا نراه! – تفصح عن الباطن.

الشاعرية هنا عوده متجددة إلى البكارة، تستهدف إطلاق القوى المقيَّدة في الإنسان. فيها ترتفع الكلمة لتصبح أسطورة؛ فيها تخاط الكلمات، ويعاد نسلها خيطاً خيطاً، لتعود نسيجاً في حركة نبيلة، بهية، آسرة.

اللغة حركة كائن مصهورة في صوت ولون! إنها عالم طفولة موعودة مغتبطة، يتيح لنا الشعر فيها العلاقة الأكثر جمالاً بالعالم – ولكن حيث الكلمة لا تطيق، بل لا تطال إلا الفشل.

"تسمَّى عبارةً ميتة عبارةٌ لا تزال لغتُها لغة؛ وتسمَّى عبارةً حية تلك التي لم تعد لغتُها لغة!" (يانع كيالي) فالحس الفني بالأشياء لا يبدأ إلا إذا نشأت مسافة بينه وبين الواقع؛ وبذلك لا يمكن للفن أن يكون واقعياً.

والكلمة هنا أنثى، رحمٌ خصب لكلِّ طاقات البداية والخلق والكثرة، في أفق لا ينتهي. تدخل الكلمة في لانهائيَّة المكان، إذ ينحني الشكل ويتماوج، يتكوَّر وينبلج، يتقمَّص كل أبعاد الحركة، بل تصبح اللغة–الصورة مرآة، عقدة مرايا للامرئي. والصورة لا تكتسب بُعدَها إلا بقدر ما تكون عتبة لما لا يُرى. فليست الصورة زخرفاً وشكلاً، بل هي باب إلى المجرَّد، سواء في الذات أو في الطبيعة.

وفي التجربة الفنية تصبح الأداة والعلم امتداداً آخر لليد المبدعة، في حين أن الآلة، في استعمالها الاستهلاكي، تبقى حجاباً يُمعْزِل الإنسان عن المادة والطبيعة. فالآلة، العلم، تهتم بالشيء بما هو شيء. أما الفن فيفصح عن علاقة الشيء بالإنسان. يفترض بالفن أن يستعيض عن المادة والوجود بخلق عوالم، أشياء جمالية محضة، كما تراها عين القلب، كما تراها بماهيَّته.

"المحاكاةُ قبحٌ ولا تنتج إلا قبحاً"، في حين أن الإنسان الناطق منشئٌ بطبيعته، بادئاً دوماً، مبدعاً دوماً.

يقول الحلاج: "من يطَّلع على إشاراتنا لا تهديه عباراتنا." و"الإشارة قبل العبارة." فطوبى لنصٍّ يكتشف نفساً، ويعيد كتابة العالم، ويفكِّك وحدة الأنا بمفهومها القديم، المنطقي والنفسي، أو وحدة الهوية. إنه اختراقٌ لعالم الظواهر، لا يتم إلا بتدمير قواعد اللغة والشريعة. بذلك تنفجر الأنا وتنفجر الكلمة.

*** *** ***

 

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود