شبكة الحياة

 

ديمتري أفييرينوس

 

 ثمة حرارة واحدة، نَفَسٌ واحد، كل الأشياء يعطف بعضها على بعض.

أبقراط

 

لم يكن عالم الفيزياء الألماني إرْوِن شرودنغر أول من طرح سؤال: "ما هي الحياة؟" ولن يكون الأخير قطعاً. فالحياة طاقة مبهمة الأصول، والجواب على السؤال يحيِّر عقولنا، ويتملَّص من بين أصابعنا. إنه لمن المفارقة أن يكون ثمة شيء فينا، وفي كل مكان من حولنا، ولا نعرف في نفس الوقت شيئاً عن ماهيَّته. كل ما نعرف هو أنه عندما تحضر الحياة تحصل بعض الأمور، كالنمو، والانتظام الذاتي auto-organization، والتناسل. وعندما تنسحب – وهي قد تتوارى توارياً عنيفاً في أحيان كثيرة – فإن المتعضِّيات organisms تبدأ على الفور بالتفكك والتفسخ. فمن أين تأتي الحياة؟ مرة أخرى، لا أحد يعلم. قد يحلو لبعضهم أن يرى فيها "بخاراً ينضح من الدماغ" – أو شيء من هذا القبيل اللامعقول –، إنما لا أحد يعرف فعلاً من أين تأتي الحياة.

بيد أن ما يسمَّى "شبكة الحياة"* شيء أكثر ملموسية – فنحن جزء لا يتجزأ منه – وبدراسته، وبالتفكُّر فيه، يمكننا أن نستشف هذا السر الذي هو الحياة ونفهم – وإنْ جزئياً – المغزى العميق منه.

في أوبنشاد مونداكا الهندية نقع على تصريح عميق عمق الحياة:

ذاك الذي لا يُدرَك، لا يحاط به، لا أصل له ولا نسل، لا يبصر ولا يسمع، لا أيدي له ولا أرجل، أزلي، يتخلل كل شيء، كلِّي الحضرة، فائق اللطف – ذاك هو الذي لا يموت ويدركه الحكماء منبعاً للكائنات.

مثله كمثل العنكبوت الذي يحوك نسيجه ويسحب [خيوطه]، كذلك من الذي لا يموت يولد [الكون].

بقدرة المشاهدة [tamas]، برهمن – الأزلي – يتمدَّد.

إن النسيج الذي يحوكه العنكبوت الكوني هو الكون؛ وهو، بحسب بعض الأسانيد الأسطورية الأفريقية، محوك من خيط واحد. إن شبكة معقَّدة، رهيفة، رائعة الفاعلية، تمتد من المركز، في أرفع الأقاليم الروحية، منداحة نحو المحيط حتى المستوى المادي الغليظ الذي لا ندرك بحواسنا إلاه.

حسبنا أن نلقي نظرة على أرضنا الضئيلة لكي نرى أيَّ تنوع هائل في المواد، في أشكال الحياة وخططها وسيروراتها، ينطوي عليه النسيج. هذه الموجودات التي تشكل كلاً وتتفاوت في العمر – الصخور القديمة والأحدث، الأجناس المنقرضة والحية، الأشجار الطاعنة في السن (أكثر من ألف سنة!) والنباتات التي ما تزال فتية – كلها جزء من النسيج المتحول أبداً، فيما العنكبوت ينسج، يرمِّم، يعيد البناء...

من هنا فإن العالَم لم يَصِرْ إلى وضعه الحالي دفعة واحدة، بل إن برهما (الإله "الموجِد" في الحكمة الهندوسية)، عبر تأمل مطوَّل، أوجد العالم ببطء وبالتدريج. إنها بالمصطلح السنسكريتي tapas، تلك الطاقة الهائلة المتولِّدة عن الاستغراق العميق والمشاهدة التي يوسِع بها برهما، الينبوع المتعالي للوجود ("والسماءُ بنيناها بأييدٍ وإنا لموسعون"، الذاريات 47)، مفصحاً عن الممكنات الكامنة فيه التي ما إن تَنْوَجِد حتى تتضافر على نحو مذهل. كل الصور والأشكال تولد من العقل الكلِّي، وشوطاً بعد شوط، يرتقي التطور بكل الموجودات إلى مراتب من الكمال أعلى فأعلى. العوالم تتغير، والملَكات تتفتح، ويتم بلوغ مستويات وعي أرقى بدافع من العقل المبدع في العوالم الداخلية غير المحسوسة. وعندما ينسحب العقل الكلِّي تكف الصور المتجلية عن الوجود فيما يدعوه الهندوس بالـ Mahapralaya، "الفناء الأكبر". وهذا العقل هو الخيط الذي ترمز إليه، في أساطير الهند، شبكةُ إندرا، التي هي شبكة من الدُّرر، فيها عند تقاطع كل خيط مع خيط آخر درَّةٌ تعكس كلَّ الدُّرر العاكسة الأخرى. وهذه الدُّرر هي الموجودات، جمادها وحيُّها. الأرضية التي ينبثق منها هذا العقل غير قابلة للإدراك، لكنها كلِّية الحضرة، أبدية. وشبكة الحياة التي تتجلَّى في العوالم الدنيا تعكس الفطنة، والجمال، واتساق العلاقات، والمحبة، وغيرها من الصفات الكلِّية للينبوع الأصلي.

إن مفهوم شبكة الحياة وتواشج الكائنات الحية ليس مفهوماً جديداً. لقد تصورت شعوب قديمة عديدة أن أشكال الحياة انتسجت معاً على نحو رائع وأن للشبكة مصدراً قدسياً. وكان التفكُّر فيها بنظرهم وسيلة الإنسان إلى اكتشاف الصفات الذاتية للإله. ففي الهند كانت الجبال والأنهار، الأشجار والصخور والطيور، والأرض نفسها، مقدسةً وتُعتبَر كيانات حية. لم تكن الغانغا (نهر الغانج) بنظر الذين يستشعرون الأشياء اللطيفة مجرد نهر، كما هي بنظر عوام الناس، بل هي إلهة – الأم غانغا. والتيبتيون والهنود جميعاً يعتبرون جبال الهملايا مسكن الآلهة. والعديد من الآلهة تتخذ أجسام الحيوانات والطيور، بما فيها الجرذ المتواضع.

من ناحيتهم، كانت سكان أمريكا الأصليون يستشعرون قرابة وثيقة مع الطبيعة وأولادها، كما تشير إلى ذلك كلمات الزعيم الهندي الأحمر سياتل المؤثرة:

كل إبرة صنوبر لامعة، كل شاطئ رملي، كل ضبابة في الغابات المظلمة، كل حشرة تطفر أو تطن، مقدسة في ذاكرة شعبي وخبرته. النسغ الجاري في الأشجار يحمل ذاكرة الإنسان الأحمر...

نحن جزء من الأرض وهي جزء منا. الزهرات العطرات شقيقاتنا؛ الأيِّل، الحصان، العقاب الكبير، كلُّهم أشقاؤنا.

الذرى الصخرية، دَرُّ المروج، حرارة جسم المُهْر، والإنسان – كلهم ينتمون إلى الأسرة عينها.

يتمتع السكان الأوستراليون الأصليون بمعرفة حميمة بالأرض وبعناصرها. وقد اتفق لهم أحياناً أن ينقذوا مغامرين بيض جاهلين تائهين وسط الصحراء بإرشادهم إلى مكامن المياه الجوفية. وفي الطاوية Taoism – حكمة الصين – أن هذا العالم المرئي انعكاس لسكينة الروح المحض. وبنظر شعوب عريقة عديدة، كانت الوحدة مع الحياة بأسرها – العناصر، الأنهار، لجبال، الأشجار، الحشرات، والآلهة – واقعاً حياً.

في كتاب له صدر مؤخراً بيَّن البيولوجي المرموق روبرت شلدريك أن الحيوانات، على أنواعها، تتصف بحسِّ قرابة رائع مع أسيادها. فعلى سبيل المثال، كان كلب تعاني سيِّدته من نوبات صرع خطيرة يعرف مسبقاً أن النوبة على وشك الحدوث، فينبِّهها إلى ذلك لكي تأخذ حذرها. وقد بيَّنت التجارب أن الكلاب تستطيع معرفة ذلك عبر مراقبة حدقة عين المصروع قبل حدوث النوبة، فصار بالإمكان تدريبها على ذلك. إن مثل هذه الحساسية الفائقة تتصل بحسٍّ مذهل بالوحدة مع الطبيعة ومع كل مظاهر الحياة، ربما فقده البشر من جراء نمط حياتهم المعاصرة البعيد عن الطبيعة، ونتيجة نشاط ذهني مفرط في المحدودية. فكما كتبت السيدة بلافاتسكي في ثمانينات القرن التاسع عشر:

من الكائنات الإلهية إلى البشر، من العوالم إلى الذرات، من الشمس إلى القلب الحيوي لأصغر المتعضِّيات – فإن عالم الشكل والوجود عبارة عن سلسلة هائلة مترابطة الحلقات.

لقد ضاع الشعور بالكلِّية وبالخاصية القدسية للحياة في العصور الحديثة من جراء استبداد السلطة الدينية المركزية. فقد قضى جيوردانو برونو على المحرقة عام 1600 لأنه أعلن، في جملة ما أعلن من حقائق، أن الوجود واحد ولانهائي:

منه تستمد الموجودات كلها وجودها، ليس الموجودات الحالية – الكون الموجود – ولكنْ كل الأكوان الممكنة الوجود.

أعقبت هذه الفترة المبقعة بالقتامة من تاريخ الغرب فترة من العقلانية الجرداء التي، وإن حرَّرت الإنسان من استبداد السلطة الدينية وأعلت منزلة العقل، فهي ما تزال تهيمن على حياتنا إلى اليوم، بما أن العالم أجمع يكاد يصير نسخة عن الغرب – الأمريكي خاصة – الذي يفرز يومياً تطبيقات علمية مبتذلة تزيد من رفاهية معيشة فئة "محظوظة" من الناس!

على أن تباشير حلول أنموذج paradigm جديد بدأت بالظهور، إذ بدأ مفهوم الكون المادي، الآلتي mechanistic، العديم المعنى، بالانزياح لصالح مفهوم جديد عن كون لا حدود له، حيٍّ، ديناميٍّ، ذي أبعاد غير معروفة. بيد أن هذا الفكر الجديد وئيد التقدم، وما برحت النظرة المادية القديمة تُحْكِم قبضتها على الفكر الجديد بما يحول دونه والبرهان على ما بات بيناً: الكائنات الحية ذات وعي متصاعد، بدءاً من الوعي الكامن في الحجر حتى الوعي المنعكس على ذاته reflexive consciousness في الإنسان، ومصدر شبكة الحياة مصدر واحد. قد يستغرق هذا الوعي، بالتالي، وقتاً طويلاً حتى بلوغ استيعاء معنى ما قاله أحد الحكماء بخصوص الشبكة، الذي سبق أن انكشف للصوفية وكبار الشعراء والفنانين:

شدَّت الطبيعة أجزاء ملكها قاطبة بخيوط حاذقة من التعاطف والتجاذب، وثمة ترابط بين النجم والإنسان.

لقد بات التشكيك واسعاً في التصور البالي عن طبيعة مخضبة بضربات الأنياب والأظافر، وعن حياة ما هي إلا صراع محموم يجعل من العنف قانوناً طبيعياً، بما يجعل غلاة الدارونية الاجتماعية يرون في التنافس والإجرام مظهرين "طبيعيين". لقد حدا الرصد الدقيق للطبيعة بأحد البيولوجيين الرواد إلى القول بأن "من بين أكثر مبادئ العلم والإيكولوجيا توثيقاً اليوم التأكيد بأن نوعين اثنين لا يشغلان أبداً المهاد نفسه." وهناك آلاف الأمثلة الموثَّقة علمياً التي تتعايش فيها أنواع متشابهة لأنها تقتات على طعام مختلف، أو تنشط في فصول مختلفة، أو تندرج ضمن منظومات إيكولوجية ecosystems مختلفة. فبعض النباتات وجد مأوى في الصحراء، وبعضها الآخر في الغابات المدارية؛ بعض الكائنات ليلي، وبعضها الآخر ليس كذلك. والطبيعة هي من التنظيم بحيث تقتسم الكائنات القوتَ والمجالَ الحيوي بما يكفيها جميعاً. إن تصور وضع شاذ تحترب فيه الكائنات على البقاء أشبه بقولنا إن على الخباز أن ينازع النجار لكي يبقى على قيد الحياة! وفي المجتمع الإنساني، من الجنون أن يحترب الخبازون والبساتنة والمعلمون والأطباء بعضهم ضد بعض لأنهم بالضرورة شركاء في الأرض. يقول عالم فسيولوجيا النبات فريتس فِنت:

ليس ثمة صراعات محتدمة بين النباتات، وليس ثمة تقاتل عدائي، بل نمو متناغم على أساس مشاركة (الند للند). مبدأ التعاون أقوى من مبدأ التنافس.

وهو يشير أيضاً إلى أن الحيوانات التي تقتات على الصيد لا تقتل إلا عند الضرورة، وهي لا تقتل عن كره، أو غضب، أو جشع، أو لذة، كما يفعل البشر. وبحسب كونراد لورنتس، عالم الإيثولوجيا (علم سلوك الحيوان) المعروف، لا ترينا صور النمور أو الأسود المنقضة على فرائسها أي غضب أو عنف على وجوهها.

من مظاهر الترابط والتعاون في الطبيعة قيام بعض الكائنات بنقل بعضها الآخر. فطيور أبي قردان تسافر على ظهور الجواميس، فتخلِّصها من الحشرات والقراد الذي يتطفل عليها، والجواميس تزود الطيور بالحشرات عندما تقتلع العشب من الأرض. كذلك، في منظومة تعاون الكائنات في الطبيعة، تتساكن الكائنات (نحن مثلاً نستضيف في مصراننا متعضِّيات مجهرية مفيدة)، وينبِّه بعضها بعضاً عند الخطر (كالسناجب والطيور عند مرور حيوان مفترس). ليس بمقدور أي نوع، إذن، أن يبقى بمفرده حياً على الكوكب؛ فمن شأنه أن يستنفد مع الوقت كل الغذاء المتوفر، بدون أن يتجهز بوسيلة لإعادة تصنيع نفاياته إلى غذاء، وبذلك سرعان ما يفنى. الحياة جزماً مغامرة التعاون بامتياز، كما يبيِّن ذلك الأنموذج الجديد بما لا لبس فيه.

وفي حين يتقدم فكر البيولوجيين الجدد في هذا الاتجاه، يُعمِل الفيزيائيون فكرَهم في كيفية تأثير الإلكترونات بعضها على بعض عن بُعدٍ لا يسمح لأكبر سرعة في الطبيعة – سرعة الضوء – بانتقال المعلومات فيما بينها (تجربة الفيزيائي الفرنسي ألان أسبيه). فهل ثمة أرضية تحتية من الوعي تصل فيما بينها؟

يخبرنا العلماء بأن قوانين الطبيعة واحدة في الكون بأسره. فهناك قوة واحدة تبقي الكواكب والكويكبات على مداراتها، ويبدو أن نظاماً واحداً ينتظم الكوسموس بأسره. يقول السير وليم ريس، الفلكي في الجمعية الملكية البريطانية: "يبدو أن كل أجزاء الكون تتطور على النحو نفسه، وكأنها جميعاً ذات أصل مشترك." حتى نظرية الشواش Chaos Theory المعاصرة تتوصل إلى نوع من الانتظام الداخلي في البنى الشواشية في الطبيعة. وبعض دارسي الطبيعة يقعون على نماذج متكررة في لحاء الشجر، وفي البلورات، وسواها. فاللولب والنجمة وأشكال هندسية أخرى تتكرر على المستويين الميكروسكوبي والماكروسكوبي، بما يشي بوحدة أساسية تنتظمهما جميعاً. صَرْح العلم نفسه بُنِي لبنة لبنة، بمقتضى سيرورة منطقية، بما يشير إلى وجود روابط عقلية منظمة تندرج من خلالها الموجودات في وجود واحد كلِّي. ألم يقل هيغل إن كل ما هو عقلي طبيعي؟

كذلك ثمة روابط ضمنية وطاقات "روحية" تعكس ماهيَّة العقل الواحد، محايِثةً لكلِّ الظاهرات المحسوسة. فالكون نفسه عقل، كما يصرح الفيزيائي فريد هويل الذي يرجِّح أن ظاهرة الحياة هبطت إلى الأرض من الفضاء الخارجي. وهذا العقل منبثٌّ في الكون بأسره ويمكن رصد آثاره في بيئتنا المباشرة. والطبيعانيون يعلمون أن ثمة "مدرسة للطبيعة"، وأن الكثير مما يجهله الصغير يعلِّمه إياه والداه. فالطيور والحيوانات تدرِّب صغارها على المهارات الضرورية للبقاء. ولقد تسنى لنا أن نرى في فيلم وثائقي سنجاباً طفلاً يسقط من أعلى باب ويجري مسعوراً حول نفسه قبل أن يعود إلى الباب حيث لامست أمُّه أنفه بأنفها وكأنها تلقنه أمراً ما. لكن السنجاب الصغير لم يكن يفهم، فيقع مجدداً ويدور حول نفسه قبل أن يعود إلى أمه. وكل مرة، كانت تلقنه الرسالة بأنفها حتى يتمكن من فهم ما "يقال" له ويجد الأمان. فكيف تعرف الأم كيفية تعليم طفلها؟

يجب على خيط شبكة العنكبوت أن يكون من الرقة بحيث لا تبصره الحشرة الطائرة قبل أن يفوت الأوان وتقع فيه، لكنْ من القوة بحيث يُبقي الحشرة في أسره. إن قوة شدِّه تبلغ ضعفي قوة شد خيرة أنواع الفولاذ التي توصَّل إلى صنعها الإنسان، ومرونته أكبر من مرونة النايلون. وإن العديد من المصنوعات الإنسانية قائمة على رصد الطبيعة والمواد التي يصنعها أبناؤها. فبنية قرص عسل النحل، على سبيل المثال، مذهلة حقاً. جاء في كتاب أغروس وستانسيو البيولوجيا الجديدة ما يلي:

يحتاج البشر إلى أدوات قياس شديدة الحذاقة لبلوغ مثل هذه الدقة، بينما النحلات يتوفَّقن إلى ذلك بفضل قرون استشعارهن.

من ناحية أخرى، يسمح الشكل المسدس للخلايا بالحصول على أقصى فضاء داخلي ممكن، بأقل كمية ممكنة من المواد، بدون ترك أي مكان غير مستفاد منه. كذلك فإن أجنحة الطيور والحشرات مصمَّمة بحيث تكون مقاومة الهواء في حدِّها الأدنى، وبذلك نتعلَّم منها ألفباء ديناميات الهواء aerodynamics. فكأن ثمة عقلاً كونياً يعمل من خلالها ويساعدها (مثلما قد يساعد البشر عندما يفسحون له المجال بأن يعمل من خلالهم) بحيث تحقق الغاية من التطور الكلِّي على مستواها الخاص، وبطريقتها الخاصة.

هذا العقل هو الذي يملي على كل كائن أن يفعل ما هو ضروري من أجل حياته ومن أجل تطوره نحو الكمال. وعندما تتم التضحية بالحياة فإن هذا يتمُّ بالمقدار المطلوب، بما يخدم دورة الحياة ككل. فكأن الشكل يحيا بالأخذ بينما تنمو الحياة بالعطاء. ويقوم أنواع وأفراد مختلفون بـ"تضحيات" مدهشة للسماح للآخرين بالتحول وبالتكامل. على صعيد الشكل تبدو التضحية مؤلمة، لكن الحياة، من وجهة نظر أعلى، تتنامى.

من أشكال الطاقة الروحية المبطِّنة لتيار الحياة المتجلِّية الجمالُ الذي يُسفِر عن نفسه حيثما وُجِدت الحياة. الأشجار والنباتات تستمد العناصر المغذية من الأرض عشوائياً وتحوِّلها إلى أشكال من الجمال، ذات ألوان بديعة، وذات أقمشة ورسوم تسحرنا. ندفة الثلج وزنبقة الحقل (تلك التي "سليمان في أبهى مجده لم يلبس مثلها"، على حدِّ قول المعلِّم الناصري) والفراشة والجُعْل وغيرها من الكائنات، صغيرها وكبيرها، أكنَّا نستطيع ملاحظته أم لم نكن، تكشف جميعاً، كلٌّ على طريقته، عن سناء العقل الكلِّي: الجمال والتناغم والمحبة تتعانق، من حيث كونها من صميم طبيعة هذا العقل. يقول الفيزيائي ريتشارد فاينمان في خاتمة كتابه الرائع طبيعة قوانين الفيزياء:

[...] فما هو الشيء الذي في الطبيعة يتيح لنا، انطلاقاً من مجال واحد، أن نتنبأ بالصورة التي تجري وفقاً لها الأمور في بقية المجالات؟ إن هذا السؤال ليس من العلم في شيء ولا أدري كيف سأجيب عليه. وعلى هذا سأعطيكم جواباً غير علمي: أعتقد أن السبب يكمن في البساطة، وإذن، في جمال الطبيعة الرائع.

الحياة كلُّها معجزة. فلا ندعنَّ أفكارنا تقاوم العقل الكلِّي وتعرقل مفعوله، نابذين الجمال والحكمة والمحبة التي تضيء الشبكة. فكما أن الضوء الأبيض يُعرَف معرفة أكمل عبر الألوان القزحية، كذلك صفات الينبوع الأول تُعرَف عبر مرآته: الكون. الحياة الإنسانية لا تُثمَّن لأنها مجبولة على القدرة على وعي جمال الشبكة، وعلى فهم المغزى الضمني للسيرورة التطورية وغاياتها البعيدة. وفيما نحن نفتح قلوبنا على الحياة بوصفها كلاً لا يتجزأ، وعلى البهاء المنكشف في تجلِّياتها، نُبهَت، ذاهلين عن أنفسنا. إن شري كرشنا، تنزُّل Avatara الإله فشنو، "الأقنوم" الحافظ للثالوث الهندوسي، الذي يجسِّد الحياة الكلية، المتجلِّية وغير المتجلية معاً، يقول في الـبهغفدغيتا، كتاب الحكمة الهندوسية الأشهر:

ادغم عقلك فيَّ، اخشع لي، ضحِّ بنفسك من أجلي، اسجد لي، تبلغني.

المراد هنا من ضمير المتكلم المصدر الأصلي، الينبوع الأول، الذي تنتسج بخيوطه شبكة الحياة. وفيما نحن نتخلَّى عن مفاهيمنا الوضيعة، عن رغباتنا وأهوائنا الأنانية، ونستغرق في هذا الوعي الكلِّي، فإن جماله وطاقته يسموان بوعينا الفردي. وعندئذٍ نتبرَّك وقد تزودنا بالملَكات التي تمكِّننا من استيعاء أن الشبكة غير مختلفة عن العنكبوت، رمز الناسج الأبدي. يقول الصوفي العظيم فريد الدين العطار:

سأقول لكم ما لم يُقَلْ:

أيُّ الأسرار بقي محتجباً

[بعد أن] رأيت وجه الحبيب جهراً.

ها أنا ذا أشي بسرِّ الأسرار الخفية:

اعلمْ، أخي، أن النقش هو النقاش!

*** *** ***


* هذا هو العنوان الذي اختاره المفكر المنظوماتي فريتيوف كابرا لأهم كتبه حتى الآن: The Web of Life.

 

 

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود