|
على الحافة:
مدخل إلى الفلسفة البيئية
نحو عقل بيئيٍّ
جديد ووعي إنقاذيٍّ
صباح
زوين
في
كتابه على الحافة: مدخل إلى الفلسفة البيئية*
يتناول حبيب معلوف معضلة البيئة من منظار
فكري – ولنقل فلسفي – شاءه الكاتب على نحوٍ
ما. يدخل موضوعَه من أبواب فكرية شتى، أبرزها
فلسفي–سياسي، وله وجهات نظر مثيرة، في أسلوب
تناوُلِها الكثير من الاجتهاد البحثي أو
النظري التجريدي؛ إذ يخوض في المسائل ذهنياً
وثقافياً. يتمتع
معلوف برؤية صائبة وحادة في معالجته
الاجتماعية–البيئية هذه، مناقشاً الموضوعات
الأكثر إلحاحاً في عالمنا (وأهمها الاقتصاد
وما نجم عنه من مشكلات صحية وبيئية) التي لا
يجوز للإنسان بعد اليوم أن يغض النظر عنها.
يربط بين زيادة الإنتاج الصناعي والانحباس
الحراري وعواقب ذلك أخطاراً على الطبيعة،
بلوغاً إلى التهديد الحقيقي للأرض والحياة
البشرية. يذكِّر بالتصحُّر وإبادة الشجر
والغابات وغزو الباطون وانقراض بعض أنواع
الحيوانات وتبدل المناخ، وكل ذلك بسبب التلوث. يؤوب
حبيب معلوف في بحثه دوماً إلى بداية البدايات
التي تلقِّننا إياها كتب علم الاجتماع،
ويذكِّر القارئ أكثر من مرة بتاريخ البشرية
الذي يمكن تسميته بالتاريخ الاقتصادي. يستعيد
صورة الإنسان "جَمَّاعاً–قَطَّافاً–صياداً"
ليتحول "مزارعاً–مالكاً–مدجِّناً".
ونحن نعرف ذلك، لكن ما لا نعرفه هو: إلى أين
سيقودنا شغفُنا بالملكية والجشع الاستهلاكي
غير المحدود؟ يسمي حبيب معلوف هذا التطور
الاقتصادي–الإنتاجي تطوراً غير مُعَقْلَن
مرتبطاً في شكل من الأشكال ببعض المرجعيات
الدينية، على ما جاء في سفر التكوين: "فلنعمل
إنساناً على صورتنا ومثالنا، وليتسلَّط على
سمك البحر وعلى طير السماء وعلى البهائم
وجميع الأرض وجميع الدبيب الذي يتحرك على
الأرض." فكأن الكاتب أراد القول إن التدمير
البيئي بدأ منذ الماضي السحيق. هذا صحيح من
حيث النتيجة، وإن لم يرمِ سفر التكوين إلى
انتهاك توازن الطبيعة، بل منح الإنسان ميزة
تجعله يدرك تفوُّقه على باقي المخلوقات – هذا
من ناحية. لكن من ناحية أخرى، لا يشكل ذاك
النوع من "الاستهلاك المعقول" خطراً على
صحة الأرض، كما أن السياسة الرأسمالية لا
تقودها نصوصُ التوراة لتحقق مآربها، بل قد
أقول إنها في حاجة إلى العودة إلى تلك النصوص
لتعقل قليلاً فتنتج ما هو ضروري وتستهلك ما لا
يفوق حاجتها. بيد
أن ما يدعو إليه حبيب معلوف هو ما يصبو إليه كل
عاقل يعي خطورة الوضع البيئي: أن نعمل على "إعادة
عقلنة العقلانية" لإيجاد عقل بيئي جديد.
لكن الكاتب يتناول البيئة، في معظم الأحيان،
انطلاقاً من مفاهيم فلسفية، وإن يكن المطلوب
في النهاية، وفي الأساس، إنقاذ الأرض من
دمارها، وبالتالي، وقبل كل شيء، إنقاذ الحياة
نفسها. "وهذا ما دفع بعض الفلاسفة الغربيين
إلى الإعلان عن "موت الله" إيذاناً
بانهيار المقولات والمرحلة الميتافيزيائية،
وإعلان "موت الإنسان" تعبيراً عن فشل
الإنسان في إدارته الكون واعتبار نفسه المحور، كونه دمَّر الطبيعة
أيضاً! فهل نكون
على أبواب مرحلة جديدة يُعاد فيها الاعتبار
للمقولات الثلاث من دون طغيان إحداها على
الأخريين؟ وهل يعود الوفاق بين الإنسان
والطبيعة، أم أن علينا أن ننتظر من يعلن "موت
الطبيعة" في المرحلة المقبلة؟" يطرح
حبيب معلوف أفكاراً غاية في الأهمية، ولا
سيما أنه يعود دائماً إلى مرجع فكري ليربطه
مباشرة بمسألة بديهية لا تحتمل فلسفة، وهي
المسألة البيئية. وفي تفكير منطقي استنتاجي
بارع يدخل الموضوع المتعلق بالبيئة من خلال
فلسفات الوجود. لكن طرح الكاتب معلوف يتكشف عن
متعة في إنتاج الأفكار، وإن لم نكن نشك في
حقيقة قلقه على مصير الحياة، أرضاً وإنساناً
ومخلوقات. فهو، قبل كل شيء، وانطلاقاً من
العنوان إلى المحتوى، مشدود أكثر إلى ثقافة
البيئة منها إلى جسدها الحي. ويسعنا القول
أيضاً إنه يؤثِر النظرية على المعالجة
السريعة. أمرٌ جميل! لكن ليس حين تكون النظرية
على حساب حياة الأرض. فهو ينتقد، في أكثر من
مناسبة، "البيئيين الأصوليين" (كما
يسميهم) لأن أولئك يبحثون، في رأيه، عن فردوس
لم يبقَ موجوداً، ولأنه من الأجدى البحث عن
كيفية التعايش مع الراهن السياسي والاقتصادي:
"[...] فإن المدخل الحقيقي والجوهري للمعالجة
يبدأ بتغيير النظام الحضاري والثقافي بشكل
عام، والنمط الإنتاجي والاستهلاكي والسلوكي
والاقتصادي، نحو التخفيف من الاستهلاك،
وإعادة النظر في اقتصاد السوق على قاعدة
التمييز بين الحاجات الضرورية والحاجات
الكاذبة التي يصنعها الإعلان ووسائل الإعلام.
وإن ذلك لا يمكن أن يتحقق إلا بتحقيق العدالة
الاجتماعية في التوزيع وفي الاستفادة من هذه
الموارد." طرح
عقلاني وواعٍ جداً يقدمه الكاتب في بحثه
الشائق لناحية ولوجه عالم الفكر لحل مشكلة
النفايات! بيد أننا نراه، في الوقت نفسه،
معبِّراً (في الفصل الأخير من الكتاب) عن حنين
كبير وصريح إلى أيام الأجداد، أيام "الرتي"
مقارنة بأيام "الرمي" الراهنة. حنين في
مكانه، لكن ألا يراه قريباً، بل مشابهاً،
لحنين أولئك "البيئيين الأصوليين" الذين
يناقضهم من حيث الموقف؟ ألا يعتقد أن
إيديولوجياته السياسية–البيئية–الفلسفية–الاقتصادية،
وإن تكن تنطوي على حلم وردي وجميل، تحتاج إلى
الكثير من الوقت لترتيبها وبرمجتها وتطبيقها
(وقد يفشل التطبيق كما فشل سابقاً مع
الشيوعيين والاشتراكيين لاحقاً في ما يخص
العدالة الاجتماعية في التوزيع). فـ"الأصوليون"
يبادرون إلى التحرك من دون تردد. لا ينطلقون
من برامج سياسية ونظرية ليقودوا ثورتهم ضد
ملوِّثي الأرض، إنما يعملون على الفور،
لاجئين إلى أولى الأدوات والوسائل التي تقع
تحت أيديهم. ألم يلجأوا إلى وسيلة الإنترنت
لمعارضة منظمة التجارة العالمية؟ فما الخطأ
في ذلك؟! ألم ينتقد حبيب معلوف الأصولية
الغاشمة؟! وها هم الأصوليون يفيدون من
الإنتاج الاستهلاكي، إنما لغايات نبيلة. فمن
ناحية، لم يتصرفوا في حماقة مستنكرين اختراع
الإنترنت، متفرجين في بلادة على اجتماع سياتل، وكان
تصرفهم، من ناحية أخرى، مباشراً وفاعلاً، والكل يعلم أن غايته بيئية
محض، لا
سياسية ولا مصلحية. الكلام
الأخير لا ينفي رقيَّ هذا البحث ورصانته
وعمقه. ولا بدَّ دوماً من الجدال في المسائل
الفكرية. *** *** *** عن
النهار، الجمعة 18 كانون الثاني 2002 *
صدر في منشورات المركز الثقافي
العربي، 2001.
|
|
|