|
زال هول الفاجعة وبقي الحزن...
وعيت على الحياة وأنا أعرف أن هناك شخصًا اسمه أكرم أنطاكي... وتشاء ظروف الحياة أن تجمعنا بعد سنين وتربط بيننا علاقة بدأت "اجتماعية" لتنتهي بعلاقة فكرية ذهنية مترابطة الأواصر لا يحدُّها عمر أو فكر أو مسار أو فلسفة... لقاءاتنا وسهراتنا كانت عبارة عن متعة خالصة، وكنت أحرص على إعداد كلِّ ما يتعلَّق "بغذائنا الجسدي" سلفًا لكي أتجنَّب البقاء ولو لبضع دقائق في المطبخ فتفوتني نثرات من تلك النقاشات. ومع ذلك كنت أعود لأرى بأنَّ الأمور قد تجلَّت وسرحت والحديث قد احتدم (بالمعنى الإيجابي للكلمة) بين أكرم وزوجي سمير، الذي يكنُّ لأكرم كل الحب والاعجاب والاحترام، ولم يعد هناك من ضابط للغليان الفكري والفلسفي والسياسي. كان كلُّ من عرف أكرم (رحمه الله) لا بد بأن تربط بينه وبين ذلك الإنسان الفذ علاقة ما بطريقة أو بأخرى. أمَّا أنا فربطتني به علاقة غريبة من نوعها نوعًا ما، فمن ابنة أحد الزملاء في كلية الهندسة وفي الحزب الشيوعي إلى امرأة متزوجة لها حياتها وعائلتها كان هناك فاصل العديد من السنين، عدنا فالتقينا فكانت بداية خجولة وحائرة، على الأقل من طرفي، ولكن سرعان ما تلاشت كل تلك المسافات وكل تلك الفروقات ليحلَّ مكانها علاقة روحية عالية الموجة قائمة على إعجابي الشديد بفكره ومسيرته، بطيبته وبساطته، بشجاعته وإنسانيته... وكنت أعلم أنَّه يكن لي ولزوجي مودَّة كبيرة كانت تتجلَّى في تلك الأمسيات العائلية وتلك الصبحيات التي كنَّا نقضيها في بيتنا الصيفي في صيدنايا تارة مع آل الأنطاكي، أكرم ومنى على حدة، رغبة منا "بالانفراد بهما"، وتارة مع حفنة من الأصدقاء الأعزاء الذين كانوا يتناغمون مع تلك الجلسات. مجلة معابر التي أصدرها مع شريكه في الفكر العزيز ديمتري أڤييرينوس – له كل الحب والاحترام وطول العمر – كانت منبرًا لفكره وفلسفته ولجميع من شاركه رؤيته في الحياة. كانت وستبقى، إنشالله، مثالاً للتفاني والإخلاص في نشر الفكر والثقافة فوق كلِّ الاعتبارات وبالرغم من كل العقبات. الأحداث التي يمر بها بلدنا منذ عامين أثقلت كاهله وأدمت قلبه وقلوبنا جميعًا، ولكنه لم يقف منها مكتوف اليدين، كانت شجاعته في التعاطي مع واقعنا المرير ومحاولاته الجادَّة والحثيثة لإيجاد مخرج متوافق مع سياسة "اللاعنف" التي يعيشها بكلِّ جوارحه لم تجد للأسف، حتى الآن، بصيص نور ليتركنا ويرحل دون أن يرى نهاية أو بصيص أمل لهذا النفق المظلم الذي نتخبط فيه، ورائحة الدم والبارود تفوح في هذه البلد التي طالما أحبَّ. رحمة الله عليك وتعازينا الحارة لرفيقة دربه منى ولأولاده طارق ولنا ونورا، لديمتري وكل فريق العمل في معابر ولجميع الأصدقاء الأعزاء. ستبقى في ذاكرتنا مع ابتسامتك الطيبة و"هزَّة رأسك" عندما كنت تعجب بفكرة أو مداخلة أو عندما كانت تسقط الأمور في يديك... نحن لا نبكي فقط الإنسان الذي رحل بل نبكي ضميرنا الذي مات. لكم محبَّتي. *** *** *** |
|
|