|
وجدتكَ ولم أحضر
- لا تخفْ... واهدأ... مرق المقال ولا يوجد ما يرعب...! كان صوتًا بعيدًا يعيد الثقة ومملوءًا بعتبٍ مبطن... وكنتُ أرتعد. لم يمض ساعة على خروجي من المعتقل حتى بلغني أني كنتُ مطلوبًا لأكثر من جهةٍ أمنية، ليسقطَ ذلك الفرح الهش الذي تولَّدَ ساعة ولدتني السيارة على أتوستراد المزة في ليلٍ لم يكن رحيمًا وليتكاثف ذلك الرعب بعينين مفتوحتين عن آخرهما وصوتٌ يصرخ: لن أعودَ إلى الضوء المستمر! في وقتٍ ما قديم دفعني فرحي بنشر أول قصيدة لي ورؤيتي لكلماتي تتقافزُ فوق فضةٍ سائلة ومحبحبة، لأذهبَ وأقدِّمَ شكري. استقبلني وجه صامتْ وهالةٌ من ودادٍ هادئ... قلتُ: جئتُ أقدم شكري... قال: لا داعٍ وكنتُ أتلقى مناولتي الأولى من تبغٍ وبن فوق صدرٍ من نحاس وكتب. في ليلتكَ الأولى بعد الولادة تتقافزُ إلى رأسكَ كلُّ الأفكارِ بلا رادع ووحدها الروح التي صُلبتْ. تعرفُ طعم المسامير وأتساءلُ: ما معنى ذلك؟ ما مغزى أن أكونَ مطلوبًا لأكثر من جهة؟ أوَ ليستْ كل الجهات واحدة؟ هو المقال إذًا الذي أرسلته إلى أكرم إنطاكي قبل أكثر من شهرين؟ ولكنه لم ينشر! وماذا لو أنه نشر وقُرأ...؟ ولكني لم أُسألْ عنه؟ لقد كان جلّ التحقيق يدور حول تحريضٍ وتظاهر. أم أن هناك جهة أخرى مختصة بهذا الأمر... لم أنم وانتظرتُ صبحًا أول؟ في لحظةٍ أخرى قديمة أيضًا دفعني التاريخُ إليه، وكان سوء فهم أكثر منه سوء تفاهم؛ "فالتاريخ يكون مغالطةً كبرى عندما يروى من كتبة محسوبين... وما كُتب عن الكتلة الوطنية كان غائيًا وأن عصرًا جميلاً من الديمقراطية عيشَ في أواسط القرن الماضي... اقرأ التاريخ وعينك على الحاضر...". وكانت مناولة أخرى من غبارٍ وحبر. وكان صباح... لم يفاجأ صاحب المقهى القريب بدخولي وهو ينفض الغبار عن أجهزتهِ بقدر ما تفاجأ بمظهري... لم يعلق وأعطاني جهازًا. إذًا ها هو المقال على الصفحة الرئيسية! هاتفتهُ: - أريدُ أن يُحذفَ المقال عن الصفحة! كنتَ تشعر بذلك العتب السائل والحزن العميق على الطرف الآخر من الأسلاك... ولكني كنتُ خائفًا وحزينًا وأريدُ أن أبقى هنا ولا أريد أن أعود إلى هناك... وعدتهُ بزيارة لأشرحَ موقفي ولم أذهب. كنتُ سأقولُ لهُ كم هو مؤلمٌ وقاس ذاك الغياب... وكان يعرف. وأتساءلُ كيفَ كانتْ ستكون المناولة الثالثة: في الشجاعة، الحرية، الحب، والكرامة. وسأذكرُ له اللحظة الأخيرة التي خاطبنا نحن المفرج عنهم ضابطٌ ما: "ارفعوا رؤوسكم... لماذا تطأطئون... أنتم أبناء هذا الوطن!". وكانتْ المرة الوحيدة التي سُمح لنا هناك أن نرفع رؤوسنا. كنتُ سأقولُ له: - شكرًا من القلب وجدتكَ ولم أحضر. *** *** *** |
|
|