|
التزامن
العلم
والأسطورة والألعبان
هفال يوسفتحتل
"الصدفة" مكانة هامة في حياتنا، وتُعَدُّ
ركناً أساسياً في بنياننا الفكري. فحياة كل
منَّا تمتلئ بحوادث "لم تكن بالحسبان"،
تحدث دونما تخطيط أو إدراك سابقين من قبلنا. ما
نسميه "الصدفة"، أو الحدث العارض، الذي
يتم نتيجة تقاطع سلسلتين مستقلتين من
المجريات، أطلق عليه يونغ اسم "التزامن" Synchronicity،
بوصفه توافقاً محمَّلاً بالمعنى. فالتزامن،
الذي ليس توافقاً مجرداً، وإنما شكل من أشكال
الترابط والتعالق المقصود، هي الظاهرة التي
يدرسها الكتاب الذي بين أيدينا، والذي سنحاول
تسليط الضوء على محتوياته، معطين القارئ فكرة
عامة عنه لا تغني عن العودة إلى الكتاب بطبيعة
الحال. يعطي
مؤسِّس علم النفس التحليلي كارل غ. يونغ
التزامنَ بعداً كلِّياً حين يرى أن للتزامنات
أساساً في العالم الموضوعي. أطلق يونغ على هذا
الأرضية التزامنية اسم "العالم الواحد"unus
mundus
،
الذي هو عالم حيادي يتعالى على الظواهر
النفسية والفيزيائية على حدٍّ سواء. ويرى
يونغ بأن "اللاوعي هو المكان الذي تبرز فيه
عناصر التزامن [... وأن] التزامنات مرتبطة
بظهور الأنماط البدئية عبر توسُّط اللاوعي
الجمعي" (ص 23). وبالتالي فإن التزامن حدثٌ ذو
طبيعة كلِّية، يتم دون رابط سببي مباشر، كما
أنه يدل على الجديد، اللامتوقَّع، والحي. فهو
واقع إبداعي بشكل أساسي. هذه
الثيمات الأربع هي لبنات البناء في عملية
تأسيس ما أسماه المؤلِّفان، على غرار هيغل،
بـ"روح العصر" Zeitgeist،
وهو المنظور الذي يُرى بموجبه الكون كلاً
ممتداً، مترابطاً، متسعاً، يتطور باتجاه
أشكال أشمل وأعقد وأكثر إبداعاً. يطلق
ديفيد بوهم على سيرورة التطور الكلِّية هذه
مصطلح "النظام الباطن" Implicate
Order،
ويقول عنه: "يقوم تصور الكلِّية الكامل،
الكلِّية الإبداعية، في النظام الباطن
[...]". (ص 49) وهو، في ربطه بين السيرورات
الذهنية والسيرورات الباطنية، لا يرى
اختلافاً بين ما يحدث في وعينا وما يحدث في
الطبيعة. اعتبر
البيولوجي النمساوي بول كاميرر أن الحوادث
المتشابهة التي تتكرَّر تخضع لقانون مادي
طبيعي أسماه "قانون السلسلة"، وعدَّه
نوعاً خاصاً من العطالة أو القصور الذاتي،
يدفع بالحوادث المتشابهة نحو التكرار (ص 56). وقد
وجد مؤلِّفا كتاب المرأة الكَدِرة، جون
بريغز وديفيد بيت، أن السيرورات التي تبدو
عشوائية في الظاهر إنما هي نماذج محددة
تتعيِّن بـ"جواذب" محددة رياضية (ص 60) –
الأمر الذي بات يُعرَف باسم نظرية الشواش Chaos
Theory
أو ديناميَّات الشواش. لم
تعطِ جهود كاميرر ثمارها لأن الفيزياء
الكلاسية (بحسب تعبير أليكس كومفرت) "لم تبدِ
ما يكفي من المشاركة الوجدانية". فالتزامن
يقتضي "كوناً تكون فيه جميع الحوادث غير
المرتبطة بعضها ببعض في الظاهر متحابكة معاً
بحيث تشكِّل نسيجاً عالمياً متمادياً متصلاً"
(ص 64). وهذا ما قدَّمته نظرية النسبية العامة
لأينشتاين ونظرية الكم Quantum
Theory،
حيث اعتنت الأولى بالأشياء، بينما اهتمت
الثانية بالأفعال والحوادث. تبدَّت
كلِّية الأشياء وترابطُها بشكل أوضح في
العالم المجهري من خلال مصطلح "اللاموضعية"
non-locality،
الذي نتج عن ردِّ نيلز بوهر على مفارقة EPR
(وهي التجربة الذهنية المعروفة بمفارقة
أينشتاين–بودولسكي–روزِن) التي حاولت تجاوز
التزامن الكمومي عبثاً. قدَّم العالم
البريطاني جون بِلْ البراهين الرياضية على
صحة ظاهرة اللاموضعية فيما يعرف باسم "تفاوتات
بِلْ" التي دلَّلت على وجود "ظواهر
موضعية مبنية على واقع غير موضعي" (بتعبير
نِكْ هربرت)، وبرهنت، كذلك، على وجود تعالقات
كمومية تزامنية (ص 69). كذلك
لاحظ روبرت شيلدريك، عالم الكيمياء الحيوية
البريطاني، من خلال اهتمامه بمبحث التشكُّل morphogenesis،
أن "تطور العضوية الحية محكوم بنوع من
المجال الكلِّي أو القوة الكلِّية" (ص 77).
ولذلك تقدَّم بفرضية "العِلِّية المشكِّلة"
التي تقول بوجود مجالات شكلية تحتوي على
أنماط بدئية تَتَشَكْلَنُ بموجبها الأشكال. يرى
مؤلِّفا الكتاب أن النظام الهولوغرافي هو
الرؤية الأقرب إلى التزامن في الفيزياء
الحديثة، وهي الرؤية القائمة على أن كلَّ جزء
من الهولوغرام يحتوي الكلَّ أو ينطوي عليه (ص
71) – الأمر الذي قاد ديفيد بوهم إلى التعريف
بـ"النظام الظاهر" Explicate
Order
للكون – وهو النظام المتوافق مع العالم
المادي – وبـ"النظام الباطن" Implicate
Order
الذي هو الحركة الكلِّية الشاسعة (ص 73)، بحيث
باتت درجة الانطواء هي الأمر الأهم في
الترابط، وليس الموضعية الديكارتية. تلقَّت
فكرة بوهم حول "الكمون الكمومي" quantum
potential
دعماً كبيراً من فرضية المجال PSI
التي قدمها منظِّر المنظومات المجري إرفِن
لاشلو والتي تقول بوجود "توابع موجية
رياضية مكافئة لكمون بوهم الكمومي تدل على
بنى "معشِّشة" متداخلة بعضها مع بعض، أو
ذات نظام رفيع على نحو متزايد، تمارس تأثيراً
مباشراً على حوادث العالم الواقعي المعقدة"
(ص 86). أسهم
مفهوما "الكمون الكمومي" و"النظام
الباطن" في حلِّ أحد ألغاز التزامن،
المتمثل بوجود ثيمات مشتركة بين التوافقات
المحمَّلة بالمعنى، التي قد تختلف جذرياً من
حيث الشكل؛ وبالتالي صار بالإمكان افتراض أن
ما يسمى بـ"المعرفة المسبقة" ما هي إلا
الشروط التي تُحدِث الحوادث المعنية، بما
يتوافق مع فكرة يونغ عن التزامن بوصفه "تجلياً
خارجياً لسيرورة تتميز أيضاً بمكون نفساني
داخلي [...]" (ص 93)؛ الأمر الذي يفضي إلى أن كل
ظواهر الإدراك الحسِّي الفائق ESP
هي نماذج عن التزامن بمعناه الأوسع. ولقد
توصل الباليونتولوجي تيار دو شاردان، من خلال
أبحاثه في التطور، إلى نتيجة مماثلة، حيث رأى
أن الطاقة تشد المادة إلى مستويات أرفع من
التنظيم والتعقيد، وقال بأن "العالم
الخارجي لا بدَّ أن يتوافق على الدوام مع عالم
داخلي" (ص 101)، ورأى أن المجال العقلي Noosphère
مشابه لمجال الحياة العضوية على الأرض؛
وبالتالي فكينونة ذات بعد عالمي سوف تولِّد
وعياً عالمياً، أطلق عليه اسم "النقطة
أوميغا" (ص 102). نظر
بريغوجين إلى الكون بوصفه "كثير
التدرُّجات بمستويات شاسعة منظمة شاقولياً
في تراتب عظيم" (ص 104)، وقال بوجود "قوة
دافعة في جوهر المادة تدفعها إلى أن تطال
مستويات جديدة ورفيعة في التنظيم والوحدة"
(ص 105). كما رأى إريك يانتش أن "التزامن قد
يكون مبدأً يصدر عن مستويات التنظيم الكوني
الأرفع" (ص 106). أما آرثر كوستلر، انطلاقاً
من كلِّياته الفرعية (الهولونات Holons)،
فقد اعتقد بأن التزامن "ينبع من الكمون
التكاملي الأرفع على المستوى البشري" (ص 106). يبدو
"اللاتناظر" assymmetry
قانوناً طبيعياً. للوهلة الأولى سيبدو هذا
الكلام غريباً بعض الشيء؛ لكنْ إذا ما تأملنا
في الطبيعة بعمق سنجد أن التناظر التام غير
موجود في الطبيعة، وبالتالي في الإنسان على
المستويات كافة، الجسمانية والعصبية
والنفسية. فيما
يخص عمل نصفي الدماغ "اللامتناظرين" ترى
باربرا هونيغر أن "التوافقات المحمَّلة
بالمعنى هي سيرورات متخارجة تشبه الحلم،
يتحكَّم بها مركزٌ ثانٍ من مراكز اللغة
متوضِّع في نصف الكرة المخية الأيمن من
الدماغ" (ص 113). وقد بين النفساني جوليان
جاينيس في كتابه أصل الوعي أن هذا المركز
يخاطب النصف الأيسر للدماغ بأصوات قوية آمرة،
قال عنها: "[...] وكأنها آتية من مكان ما يقع
خارج ذاته، ربما من كهف، أو من السماء، أو من
تمثال الإله على الأرجح. تلك كانت أصوات
الآلهة [...]." (ص 114) تُعرَف
هذه الأصوات في علوم اللغة بـ"البنية
العميقة"، أو المعنى الذي لا يسبب اختلافُ
اللغات فروقاً فيها. يقول يونغ: "إن اللاوعي
الجمعي هو ببساطة التعبير النفسي عن هوية
بنية الدماغ بصرف النظر عن كل التباينات
العرقية." (ص 120) يقول
الكتاب إنه توجد رابطة بين الدماغ المتوازن
والتزامن، وإن الحالة التي يفضِّلها التزامن
هي حالة الدماغ الصامت: "حالة الصمت العميق
المتوازنة، التي تتواجد في التأمل العميق
والصلاة" (ص 122). هذا التوازن "المتماسك"
يشير إلى وجود "سيرورة هولوغرافية"،
لكونها تتسم بتزامن الموجات الضوئية لإنتاج
ما يسمى بـ"الضوء المتماسك". هذه الآلية
الهولوغرافية للسيرورات الدماغية كانت محور
فكرة عالم الأعصاب كارل بريبرام بهذا الخصوص (ص
122). وهكذا فإن الدماغ "يبدي، في شروط معينة،
تلك القدرة على ما دعاه ديفيد لوي بـ"الطواف"
في واقع هولوغرافي أكبر بكثير من نظام بوهم
الباطن" (ص 124). * بالبحث
عما تعنيه كلمة "أسطورة" يجد الكتاب أن
"ثمة مستوى آخر أعمق هو ينبوع كلِّ منظومة
حقة" (ص 141). وحين تنكشف الثيمات الأسطورية
إلى الواقع فإنها تصبح وقائع حية يعيشها
الناس. أن نعيش الأسطورة يعني أن نتمثل
شخصياتها من خلال أنماط بدئية archetypes
جمعية مترسخة في أعماقنا. ويرى يونغ أن "تفعيل
نمط بدئي أو إيقاظه يطلق قدراً كبيراً من
الطاقة، شبيهاً بما يحدث لدى انفجار الذرَّة"
(ص 143)؛ الأمر الذي يتسبَّب بتحفيز الحوادث
المتزامنة على نحو لاسببي، ويولِّد الشعور
بالقدسية – وهو إحساس بشرعية، وسلطة،
وألوهية متعالية (ص 143). يعطي
حدوث التزامنات إحساساً بأن هناك يداً خفية،
تتمتع بذكاء عالٍ وقدرة عظيمة، تقف وراء
انتهاك منطقنا العقلاني لتفسير وترتيب
الحوادث اليومية، ويخلق انقطاعاً "ليفتح
ثغرة كي يدلف منها ما هو خارق ومُعجِز" (ص
150). * يتجسَّد
اللامتوقَّع، أسطورياً، بشخصية "الألعبان"
Trickster.
وقد كان هرمس هو الأكثر تطابقاً مع التزامن من
بين الآلهة، بوصفه سيد اللامتوقَّع، وإله
التخوم، حيث تقع الحوادث التزامنية
بالانتقال بين الواقع النفسي والواقع المادي،
أو بين الوعي واللاوعي، أو بين الواقع
والخيال، أو بين الشائع وغير المتوقَّع. أما
عن مغزى الألعبان في حياتنا، فلا أفضل من
ملاحظة بلتون حين يقول عن الألعبان إنه "يدخل
العالم البشري لكي يجعل الأشياء تجري [...] لكي
ينقذ الناس من الدمار" (ص 173). يتخذ
الألعبان أشكالاً عدة، كالخيال والحلم أو
زلات اللسان، كما وقد يتصف بالمكر والخديعة
ليقوم باللصوصية وألعاب الظل، محققاً ما
يُعرَف بالتزامنات المازحة والفاسدة، أو
ألاعيب السعدان المضحكة والمزعجة. تُخرِج هذه
التزامنات ما هو خبيء إلى العلن، وتكشف
الأسرار، وتزيل الأقنعة، لتجبر الإنسان على
مواجهة ذاته أولاً، والعالم ثانياً. كان
لهرمس، كذلك، دور مرشد الأرواح إلى العالم
السفلي، كما أنه "الإله الذي يُخرِج
محتويات هذا العالم السفلي إلى العلن عن طريق
ألاعيبه التزامنية" (ص 190). أما
الدور الأبرز للألعبان فهو يبدأ عندما يتجاوز
المرء مرحلة تحقيق غايات الأنا وتبدأ مرحلة
النضج بالتوجه نحو "الذات" das
Selbst
والسير في درب التَفَرْدُن Individuation،
حيث يوفِّر حضورُ الألعبان منفذاً للذات إلى
"منبع القدرة الخلاقة" (ص 197). عندها يبدأ
"قانون التزامن" بالعمل في خدمة التفردن،
حيث تتجاوز الذات حالة الصراع والتناقض،
منضبطة داخلياً في سعيها نحو اكتمال كينونتها
الروحية، فتحيط بالسائر توافقاتٌ مساعدة،
دعاها أحد الحكماء بـ"تعاون الطبيعة"،
تعينُه على المضي قدماً. وهذه التوافقات لا
يتم استجلابُها، إنما هي عبارة عن انسجام
وتناغم بين الداخل والخارج. إنه السير مع مجرى
المصير وفقاً لسيرورة القدر. إن
هذه الطريقة في العيش تعني أن يتخذ المرء
موقفاً منفتحاً تجاه العالم، بالدخول في
اللعب، الذي هو "اكتشافٌ للذات هنا والآن"
(ص 210)، وفق تعبير إدوارد ويتمونت. يشتمل
اللعب على عفوية وشغف وفضول واكتشاف، أي حالة
إبداعية تؤدي إلى خرق تصوراتنا من خلال حوادث
تزامنية. إن للألعبان صبغة لا–أخلاقية a-moral،
بمعنى متجاوزة للأخلاق، حيث "يمثِّل، على
المستوى النفساني، استخفافَه التام بحالة
المرء العقلية وقت أداء الحادث التزامني" (ص
211). من الأهمية بمكان تذكُّر أن الديانة
البراهمانية البَدْرية كانت متجاوزة للأخلاق
المجتمعية؛ وكذلك سلوك الخضر في سورة الكهف
في القرآن، مما دفع بالنبي موسى إلى الاعتراض
على لاأخلاقية أفعال الأول؛ لكنها لاأخلاقية
تدل على حكمة عميقة الغور، تتجاوز ما هو شخصي
ومؤقت في آن واحد. لا
يقتصر التزامن على التوافقات الخارجية، بل
يشتمل أيضاً على معطيات الخيال الداخلية.
وسيبدو، بهذا المعنى، أنه من الخير لنا تكريم
الألعبان، وذلك بأن "ندفع إلى الاسترخاء
مواقفَنا وأمزجتَنا الجامدة الصلبة، بل
وربما مفاهيمَنا الأخلاقية أيضاً" (ص 213). تُبيِّن
بردية مصرية من القرن الرابع قبل الميلاد
بأنه "لكي يجتاز المرء الحساب، ينبغي أن
يكون قلبه أخف من الريش" (ص 216). ويُعتقَد في
بوذية التيبت بأن الفكاهة، وليس الذكاء، هي
ما تميز الإنسان عن الحيوان. الخفة
والفكاهة، أي اللعب، تفسحان المجال للمرء
للانفتاح على ما هو غير مألوف، بسبب غياب
صرامته وجموده، مما يشكِّل حافزاً لاتِّباع
الحدوس التي تُثار بسبب قلة أهمية النتائج
بالمقارنة مع متعة اللعب؛ الأمر الذي يفتح
أمام الإنسان آفاق تجربة جديدة هي، رغم
تناقضها ولاعقلانيَّتها، حالة إبداعية تقود
إلى التحرر والسعادة. هذه
الحالة من الانسجام في الإيقاع، والتناغم مع
حركة العالم، تمنح معنى عميقاً لكون هرمس
موسيقياً، ومخترعاً للقيثارة، ولكون الإله
الهندي شيفا "سيداً" للرقص، و"رقصُه
هو الذي يتصادى في جميع أرجاء الكون بوصفه
الطاقة الإيقاعية التي هي في أساس جميع
الأشياء" (ص 221). يعطي
التزامنُ للكون صفةً غائية، قوامها اللعب
والاكتشاف؛ وبالتالي لا يمكن إدراك هذه
الغائية "منطقياً" و"عقلانياً" –
بمعنى أن الأمر يتطلب أن نكون في المجرى، لا
أن نقف على الضفة، نراقب ونحلِّل. وأن نكون في
المجرى يعني أن نستسلم له، متجاوزين الرغبة
في السيطرة، التي هي رغبة شخصية؛ بينما يمثل
الاستسلام تجربة متعالية عما هو شخصي وكينونة
حقيقية. ينهي
الكاتبان الفصل بمقولة للسيد المسيح عليه
السلام من أعمال يوحنا (194) جاء فيها: "وإذا
أردتَ أن تفهم ما أنا، فاعلم أن كلَّ ما قلتُه
قد نطقتُ به على نحو لعوب، وما كنتُ لأخجل من
ذلك مطلقاً. كنت أرقص." (ص 224) * توجد،
كذلك، ملاحق أربعة للكتاب. يتحدث الملحق
الأول عن النُذُر والعرافة. النُذُر التي هي
"حوادث [...] تعمل كعلامات على أشياء قادمة"
(ص 227). تحدث التزامنات نتيجة لتفاعلات الأنماط
البدئية في اللاوعي. فهي، بالتالي، سابقة
للحوادث. أما إذا "عكسنا الوضع، بحيث يكون
الحادث الخارجي هو ما يُشاهَد أولاً، كنا
أمام النذير" (ص 228). أما
العرافة، فهي "فن قراءة المعنى في حوادث
عشوائية في الظاهر" (ص 230). وقد انتشرت
العرافة منذ القديم في بلاد ما بين النهرين
والصين وبابل وغيرها، بل وامتدت حتى القرون
الوسطى، وكانت لها مناهج وأساليب عدة. تنطوي
النُذُر، مثل التزامن، على مشاعر جمَّة،
كالشعور بالقدرة أو القدسية، أو مشاعر الخوف
والوجل وغير ذلك. ثم
يتنقل الكتاب بين أشكال العرافة المختلفة:
الشامانية، اليومية، الفاعلة، وأساليب كلٍّ
منها في قراءة معاني النذور الحاصلة
والإشارات والرموز المختلفة. أما
الملحق الثاني، فيتحدث عن العلاقة بين
التزامن والاحتمال؛ حيث يرى الكتاب أنه لا
مبرِّر لتطبيق الاحتمالات في الواقع، مهما
بلغت درجة تكرارها. والاحتمال يختلف عن
التزامن في كون الأول يعتمد على تكرار
الحالات الاحتمالية، بينما التزامنات هي
حوادث متوافقة، لامتكرِّرة غالباً. الملحق
الثالث عبارة عن بسط لفرضية المجال PSI
التي تطرَّقنا إليها، جزئياً، في بداية عرضنا. أما
الملحق الرابع فهو بعنوان "الحياة معلِّمة:
عِبَر التزامن في الحياة اليومية بين الغائية
والسببية"، بقلم ديمتري أفييرينوس.
يتبنَّى أفييرينوس تعريف يونغ للتزامن على
أنه "يعني حصول حالة نفسية معينة في آنٍ
واحد مع حدث أو حوادث عدة خارجية تبدو
كمتوازيات ذات مغزى للحالة الذاتية اللحظية"
(ص 256)، ويُمايِز في بحثه بين "التزامن" و"التواقت"
الذي يعني "مجرَّد وقوع أمرين في وقت واحد"
(ص 256)، ويرى بأن التحدِّي الأول الذي يواجهنا
هو عدم تأقلمنا مع تصوِّر وجود رابط بين حوادث
لا يوجد بينها أي ارتباط سببي. ويرى، أيضاً،
أنه إذا ما ارتبطت الخبرة الداخلية، لاسببياً،
بحدث خارجي، فإنها لا تشكل حالة تزامنية. توضِّح
الدراسة أن للمعنى في التزامن دوراً نقدياً،
يرتبط مع مفهوم "التَفَرْدُن" اليونغي،
حيث يستجيب اللاوعي، غالباً، للدور النقدي
للوعي، ويترك، بدوره، آثاراً قابلة للرصد في
الوعي. هذا "التفاعل بين اللاوعي والواعية
تفاعلٌ قائم على التعويض اللاواعي في المقام
الأول – ما عبَّر عنه يونغ بالتنظيم الذاتي
للنفس" (ص 259). يعتبر يونغ التعويض اللاواعي،
الذي كثيراً ما يكون الحلم وسيلة عمله، بأنه
"المكافئ النفساني لنزوع الجسم إلى تصحيح
ذاته" (ص 262). تقود
سلسلة تعويضات الشخص، عبر مسار التفردن، إلى
أن يصبح "فرداً" ذا هوية مميزة؛ وهذه
الهوية ما هي إلا تعبير عن الشعاع الإلهي فيه
– الذات" (ص 262). فقد عرَّف يونغ سيرورة
التفردن ("الخير الأسمى") بأنها "التفعيل
الواعي لقصد الذات في الحياة والتعبير عنه"
(ص 263)، ورأى أن الغاية الأسمى للحياة
الإنسانية هي "تفعيل وإنفاذ سيرورة
التفردن" (ص 263)؛ هذه السيرورة التي هي تعبير
عن "الفطنة"، والتي تعبِّر، بدورها، عن
الذات كنمط بدئي، وتعبِّر عن نفسها "في
تفتُّح "رؤيا" ما هو مقدَّر لنا أن نكونه"
(ص 263). يتطلب
هذا الأمر استسلام "الأنا" الشخصية
لمعنى الذات ومتطلَّباتها، الأمر الذي يرفضه
غرورها؛ ولهذا السبب أكَّدت تعاليم الحكمة
القديمة على ضرورة فناء الأنا، أو انطفائها،
من أجل تحقيق الذات. أما
بخصوص السببية والغائية في الحياة اليومية
فقد بيَّن البحث وجود مستويين لمبدأ الغاية:
مباشر وقصير المدى، وآخر طويل المدى. يدفع
التطور الكائنات نحو تحقيق غايات وجودها، و"تعتني"
قدرة الفطنة الإلهية بهذه الكائنات عبر تقديم
كافة وسائل الدعم والتوجيه، بل وإنارة دروبها
المظلمة عبر مسارَرَات تزيل الحجب وتوقظ
البصيرة، بوسائل مختلفة لا تحصى. ثم
يتوصَّل الكاتب إلى نتائج، يمكن إيجازها فيما
يلي (ص ص 288-289): أ.
تجاوز الزمكان: بعض خبرات التزامن يتكشف
عن معرفة تتحدى مفاهيمنا التقليدية عن الزمان
والمكان. ب.
تخطِّي
السببية: من أعظم تحديات التزامن للفكر
الخطِّي طبيعتُه اللاسببية. ت.
الوحدة
بين النفس والمادة: الارتباطات ذات المغزى
بين العالمين المادي والموضوعي في خبرة
التزامن تنطوي على وحدة بين النفس والمادة. في
الختام، لا يسعنا إلا أن نشكر المؤلِّفين
آلان كومبس ومارك هولَند، والمترجم الممتاز
ثائر ديب، والناشر مكتبة إيزيس، على تعاونهم
لإيصال هذا الكتاب العميق والممتع إلى قرَّاء
العربية. ***
*** ***
|